وَمِنْهَا، صِحَّةُ الضَّمَانِ فِي كُلِّ حَقٍّ، أَعْنِي مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، أَوْ الَّتِي تَئُولُ إلَى الْوُجُوبِ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَبَعْدَهُ، وَالْأُجْرَةِ وَالْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَازِمَةٌ، وَجَوَازُ سُقُوطِهَا لَا يَمْنَعُ ضَمَانَهَا، كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِرَدِّ بِعَيْبِ أَوْ مُقَايَلَةٍ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
[فَصْلٌ مَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ]
(٣٥٧٣) فَصْلٌ: فِيمَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ: وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ، وَفِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ، كَمَا فِي الْكِتَابَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: ٧٢] . وَلِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ إذَا عَمِلَ الْعَمَلَ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ، وَالْمَالُ يَلْزَمُ بِوُجُودِهِ، وَالضَّمَانُ لِلْمَالِ دُونَ الْعَمَلِ.
وَيَصِحُّ ضَمَانُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نُقُودًا كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، أَوْ حَيَوَانًا كَالدِّيَاتِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَيَوَانِ الْوَاجِبِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَقَدْ مَضَى الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ الْوَاجِبَةَ فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومَةُ الْأَسْنَانِ وَالْعَدَدِ، وَجَهَالَةُ اللَّوْنِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْبَاقِيَةِ لَا تَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ أَدْنَى لَوْنٍ أَوْ صِفَةٍ فَتَحْصُلُ مَعْلُومَةً، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّ جَهْلَ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَهُ بِالْإِتْلَافِ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَهُ بِالِالْتِزَامِ.
وَيَصِحُّ ضَمَانُ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَفَقَةَ يَوْمِهَا أَوْ مُسْتَقْبَلَةً؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْيَوْمِ وَاجِبَةٌ، وَالْمُسْتَقْبِلَةُ مَآلُهَا إلَى اللُّزُومِ، وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا ضَمِنَ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، لَمْ تَلْزَمْهُ إلَّا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: يَصِحُّ ضَمَانُهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَاحْتِمَالُ عَدَمِ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ ضَمَانِهَا، بِدَلِيلِ الْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ، وَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. فَأَمَّا النَّفَقَةُ فِي الْمَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً، إمَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِهَا، أَوْ قُلْنَا: بِوُجُوبِهَا بِدُونِ حُكْمِهِ، صَحَّ ضَمَانُهَا، وَإِلَّا فَلَا.
وَيَصِحُّ ضَمَانُ مَالِ السَّلَمِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِيفَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْحَوَالَةِ بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَازِمٌ فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَالْأُجْرَةِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ. وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ مَالِ الْكِتَابَةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْأُخْرَى: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ عَلَيْهِ.
وَالْأُولَى أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَلَا مَآلُهُ إلَى اللُّزُومِ، فَإِنَّ لِلْمُكَاتَبِ تَعْجِيزَ نَفْسِهِ، وَالِامْتِنَاعَ عَنْ أَدَائِهِ، فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ الْأَصِيلَ، فَالضَّمِينُ أَوْلَى. وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ، كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَّةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute