قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُ الْحَسَنِ قَوْلٌ شَاذٌّ، وَلَيْسَ الْفِطْرُ لِأَحَدٍ فِي الْحَضَرِ فِي نَظَرٍ وَلَا أَثَرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ خِلَافُهُ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: «أَتَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ يُرِيدُ السَّفَرَ، وَقَدْ رُحِّلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ، وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ، فَقُلْت لَهُ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: سُنَّةٌ. ثُمَّ رَكِبَ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] . وَهَذَا شَاهِدٌ، وَلَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُسَافِرًا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْبَلَدِ، وَمَهْمَا كَانَ فِي الْبَلَدِ فَلَهُ أَحْكَامُ الْحَاضِرِينَ، وَلِذَلِكَ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. فَأَمَّا أَنَسٌ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَرَزَ مِنْ الْبَلَدِ خَارِجًا مِنْهُ، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ فِي مَنْزِلِهِ ذَلِكَ.
[فَصْلُ نَوَى الْمُسَافِرُ الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ]
(٢٠١٥) فَصْلٌ: وَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، فَقَالَ مَرَّةً: لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: إنَّ صَحَّ حَدِيثُ الْكَدِيدِ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا أَنْ يُفْطِرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا.
وَلَنَا، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى جَابِرٌ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مَا فَعَلْت، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ، وَصَامَ بَعْضُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَعْرُجُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ بِمَا شَاءَ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَغَيْرِهِمَا، إلَّا الْجِمَاعَ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ فَفِي الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ؛ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ فَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ؛ كَالْحَاضِرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute