وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِلَ الْإِسْلَامَ. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبُّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ.
فَإِنَّ الطِّفْلَ الَّذِي لَا يَعْقِلَ، لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ اعْتِقَادُ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا كَلَامُهُ لِقَلْقَةٍ بِلِسَانِهِ، لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْعَشْرِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُصَحِّحِينَ لِإِسْلَامِهِ، لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَحُدُّوا لَهُ حَدًّا مِنْ السِّنِينَ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَتَى مَا حَصَلَ، لَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، إذَا كَانَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ فَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَدٌّ لِأَمْرِهِمْ، وَصِحَّةِ عِبَادَاتِهِمْ، فَيَكُونُ حَدًّا لِصِحَّةِ إسْلَامِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: إذَا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، جُعِلَ إسْلَامُهُ إسْلَامًا. وَلَعَلَّهُ يَقُولُ إنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إسْلَامُهُ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ بُعِثَ إلَى أَنْ مَاتَ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَعَاشَ عَلِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ فَذَلِكَ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ، فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهَا خَمْسًا، كَانَتْ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ. وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أُجِيزُ إسْلَامَ ابْنِ ثَلَاثِ سِنِينَ، مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَجَزْنَاهُ. وَهَذَا لَا يَكَادُ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ، وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَلَا يَثْبُتُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَدَلَّتْ أَحْوَالُهُ وَأَقْوَالُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِسْلَامِ، وَعَقْلِهِ إيَّاهُ، صَحَّ مِنْهُ كَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةُ الصَّبِيِّ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت]
(٧١٠١) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ رَجَعَ، وَقَالَ: لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت. لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ، وَأُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا أَسْلَمَ، وَحَكَمْنَا بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ، لِمَعْرِفَتِنَا بِعَقْلِهِ بِأَدِلَّتِهِ، فَرَجَعَ، وَقَالَ: لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَبْطُلْ إسْلَامُهُ الْأَوَّلُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي مَظِنَّةِ النَّقْصِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا. قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَقْلُهُ لِلْإِسْلَامِ، وَمَعْرِفَتُهُ بِهِ بِأَفْعَالِهِ أَفْعَالَ الْعُقَلَاءِ، وَتَصَرُّفَاتِهِ تَصَرُّفَاتِهِمْ، وَتَكَلُّمِهِ بِكَلَامِهِمْ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ عَقْلِهِ؛ وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا رُشْدَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ بِأَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، وَعَرَفْنَا جُنُونَ الْمَجْنُونِ وَعَقْلَ الْعَاقِلِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فَلَا يَزُولُ مَا عَرَفْنَاهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ مَعْرِفَتَهُ بِمَا قَالَ، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ، وَكَانَ مُرْتَدًّا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا ارْتَدَّ، صَحَّتْ رِدَّتُهُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَعِنْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute