لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الرِّدَّةِ، وَالْمَجْنُونُ لَا يُوصَفُ بِالْإِصْرَارِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِتَابَتُهُ. وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَجُنَّ قُتِلَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَهَا هُنَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا يَسْقُطُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ، فَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يُجَنَّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي حَالَ جُنُونِهِ.
[فَصْلٌ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ]
(٧١٢١) فَصْلٌ: وَمَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، سَوَاءٌ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فِي رِدَّتِهِ، أَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ، فِي مُسْلِمٍ أَحْدَثَ حَدَثًا، ثُمَّ لَحِقَ بِالرُّومِ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِ: إنْ كَانَ ارْتَدَّ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ارْتَدَّ، أُقِيمَ عَلَيْهِ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، إلَّا حُقُوقَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ أَحْبَطَتْ عَمَلَهُ، فَأَسْقَطَتْ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَالِ شِرْكِهِ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِرِدَّتِهِ، كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
وَفَارَقَ مَا فَعَلَهُ فِي شِرْكِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» . فَالْمُرَادُ بِهِ مَا فَعَلَهُ فِي كُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَا قَبْلَ رِدَّتِهِ، أَفْضَى إلَى كَوْنِ الرِّدَّةِ - الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ - مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ، وَأَنَّ مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَزِمَتْهُ حُدُودٌ يَكْفُرُ ثُمَّ يُسْلِمُ فَتُكَفَّرُ ذُنُوبُهُ، وَتَسْقُطُ حُدُودُهُ.
[فَصْل حُكْم مَا فَعَلَهُ الْمُرْتَدّ حَالَ رِدَّتِهِ]
(٧١٢٢) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا فَعَلَهُ فِي رِدَّتِهِ، فَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ، وَقَتَلَ النَّفْسَ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ. فَقَالَ: تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ. وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ ارْتَدَّ فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَقَتَلَ بِهَا مُسْلِمًا، ثُمَّ رَجَعَ تَائِبًا، وَقَدْ أَسْلَمَ، فَأَخَذَهُ وَلِيُّهُ، يَكُونُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؟ فَقَالَ: قَدْ زَالَ عَنْهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَتَلَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، وَكَذَلِكَ إنْ سَرَقَ وَهُوَ مُشْرِكٌ. ثُمَّ تَوَقَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ: لَا أَقُولُ فِي هَذَا شَيْئًا.
وَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَصَابَ فِي رِدَّتِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جُرْحٍ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَنَعَةٍ وَجَمَاعَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِجَحْدِهِ، كَمَا لَا يَسْقُطُ مَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِجَحْدِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَوْنِهِ فِي جَمَاعَةٍ مُمْتَنِعَةٍ، لَا يَضْمَنُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ هَذَا، أُخِذَ بِهِ، إذَا كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute