وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، لِئَلَّا يَبْعُدَ عَلَى قَاصِدِيهِ، وَلَا يَتَّخِذَ حَاجِبًا يَحْجُبُ النَّاسَ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا، وَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَفَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَلِأَنَّ حَاجِبَهُ رُبَّمَا قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ وَأَخَّرَ الْمُتَقَدِّمَ لِغَرَضٍ لَهُ، وَرُبَّمَا كَسَرَهُمْ بِحَجْبِهِمْ وَالِاسْتِئْذَانِ لَهُمْ. وَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ حَاجِبٍ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَيُبْسَطُ لَهُ شَيْءٌ يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى التُّرَابِ، وَلَا عَلَى حَصِيرِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ بِهَيْبَتِهِ مِنْ أَعْيُنِ الْخُصُومِ، وَيَجْعَلُ جُلُوسَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ. وَهَذِهِ الْآدَابُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحُكْمِ، إلَّا الْخُلُوَّ مِنْ الْغَضَبِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ فِي اشْتِرَاطِهِ رِوَايَتَيْنِ.
[فَصْلٌ أَوَّلُ مَا يَنْظُرُ فِيهِ الْقَاضِي إذَا جَلَسَ لِلْحَكَمِ]
فَصْلٌ: وَإِذَا جَلَسَ الْحَاكِمُ فِي مَجْلِسِهِ، فَأَوَّلُ مَا يَنْظُرُ فِيهِ أَمْرُ الْمَحْبُوسِينَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عَذَابٌ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْبَقَاءَ فِيهِ، فَيَنْفُذُ إلَى حَبْسِ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ثِقَةً، يَكْتُبُ اسْمَ كُلِّ مَحْبُوسٍ، وَفِيمَ حُبِسَ؟ وَلِمَنْ حُبِسَ؟ فَيَحْمِلُهُ إلَيْهِ، فَيَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي الْبَلَدِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: أَلَا إنَّ الْقَاضِيَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ يَنْظُرُ فِي أَمْرِ الْمَحْبُوسِينَ يَوْمَ كَذَا، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَحْبُوسٌ فَلْيَحْضُرْ. فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، وَحَضَرَ النَّاسُ، تَرَكَ الرِّقَاعَ الَّتِي فِيهَا اسْمُ الْمَحْبُوسِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَدَّ يَدَهُ إلَيْهَا، فَمَا وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْهَا نَظَرَ إلَى اسْمِ الْمَحْبُوسِ، وَقَالَ: مَنْ خَصْمُ فُلَانٍ الْمَحْبُوسِ.
فَإِذَا قَالَ خَصْمُهُ: أَنَا. بَعَثَ مَعَهُ ثِقَةً إلَى الْحَبْسِ، فَأَخْرَجَ خَصْمَهُ، وَحَضَرَ مَعَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي قَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّسِعُ زَمَانُهُ لِلنَّظَرِ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَلَا يُخْرِجُ غَيْرَهُمْ، فَإِذَا حَضَرَ الْمَحْبُوسُ وَخَصْمُهُ، لَمْ يَسْأَلْ خَصْمَهُ: لِمَ حَبَسْته؟ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا حَبَسَهُ بِحَقٍّ، لَكِنْ يَسْأَلُ الْمَحْبُوسَ: بِمَ حُبِسْت؟ وَلَا يَخْلُو جَوَابُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَقُولَ: حَبَسَنِي بِحَقِّ لَهُ حَالٍّ، أَنَا مَلِيءٌ بِهِ. فَيَقُولَ لَهُ الْحَاكِمُ: اقْضِهِ، وَإِلَّا رَدَدْتُك فِي الْحَبْسِ.
الثَّانِي، أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ، أَنَا مُعَسِّرٌ بِهِ. فَيَسْأَلُ خَصْمَهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ، فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ وَأَطْلَقَهُ. وَإِنْ كَذَّبَهُ، نَظَرَ فِي سَبَبِ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا حَصَلَ لَهُ بِهِ مَالٌ، كَقَرْضٍ أَوْ شِرَاءٍ، لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ فِي الْإِعْسَارِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِأَنَّ مَالَهُ تَلِفَ أَوْ نَفِدَ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ مُعَسِّرٌ، فَيَزُولُ الْأَصْلُ الَّذِي ثَبَتَ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَصْلُ مَالٍ، وَلَمْ تَكُنْ لِخَصْمِهِ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَحْبُوسِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مُعَسِّرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِعْسَارُ.
وَإِنْ شَهِدَتْ لِخَصْمِهِ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ لَهُ مَالًا، لَمْ تُقْبَلْ حَتَّى تُعَيِّنَ ذَلِكَ الْمَالَ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ، فَإِنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِدَارٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَصَدَّقَهَا، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَذَّبَهَا، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا لِي، وَإِنَّمَا هُوَ فِي يَدَيَّ لِغَيْرِي. لَمْ يُقْبَلْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute