وَالْأَتْوَارِ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنْ الْجِفَانِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَمَيْمُونَةُ مِنْ جَفْنَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ» «وَاغْتَسَلَ هُوَ وَعَائِشَةُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِيهِمَا فِيهِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: أَبْقِ لِي» .
وَمِثْلُ هَذَا لَا يَسْلَمُ مِنْ رَشَاشٍ يَقَعُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ كَثُرَ الْوَاقِعُ وَتَفَاحَشَ مُنِعَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ الْمُسْتَعْمَلَ مُنِعَ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ لَمْ يُمْنَعْ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَ الْوَاقِعُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ خَلًّا غَيَّرَ الْمَاءَ مُنِعَ وَإِلَّا فَلَا.
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ، وَظَاهِرُ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِهِ بِالْخَلِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْرَعِ الْمَائِعَاتِ نُفُوذًا، وَأَبْلَغِهَا سِرَايَةً، فَيُؤَثِّرُ قَلِيلُهُ فِي الْمَاءِ، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ، فَإِذًا يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ، فَمَا كَانَ كَثِيرًا مُتَفَاحِشًا مُنِعَ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ شَكَّ فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى الطَّهُورِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ.
[فَصْلٌ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ لَا يَكْفِيهِ لَطَهَارَتِهِ فَكَمَّلَهُ بِمَائِعٍ لَمْ يُغَيِّرْهُ]
(٨) فَصْلٌ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ، لَا يَكْفِيهِ لَطَهَارَتِهِ، فَكَمَّلَهُ بِمَائِعٍ لَمْ يُغَيِّرْهُ، جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يُغَيِّرْ الْمَاءَ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ قَدْرًا يُجْزِئُ فِي الطَّهَارَةِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّنَا نَتَيَقَّنُ حُصُولَ غَسْلِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِالْمَائِعِ.
وَالْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَظْهَرْ صِفَةُ الْمَائِعِ عَلَى الْمَاءِ صَارَ حُكْمُ الْجَمِيعِ حُكْمَ الْمَاءِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يَبْطُلُ بِمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ قَدْرًا يُجْزِئُ فِي الطَّهَارَةِ فَخَلَطَهُ بِمَائِعٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ بِهِ، وَبَقِيَ قَدْرُ الْمَائِعِ أَوْ دُونَهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ بَعْضُ الْمَاءِ وَبَعْضُ الْمَائِعِ، وَكَذَلِكَ الْبَاقِي، لِاسْتِحَالَةِ انْفِرَادِ الْمَاءِ عَنْ الْمَائِعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِطَاهِرٍ]
(٩) فَصْلٌ: وَلَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِطَاهِرٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَارًّا يَمْنَعُ إسْبَاغَ الْوُضُوءِ لِحَرَارَتِهِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ عُمَرُ وَابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ جَمِيعِهِمْ غَيْرَ مُجَاهِدٍ، وَلَا مَعْنَى لَقَوْلِهِ، فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ رَوَى: أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَهُ قُمْقُمَةٌ يُسَخِّنُ فِيهَا الْمَاءَ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامًا بِالْجُحْفَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ حَدِيثًا عَنْ شَرِيكٍ رَحَّالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَجْنَبْتُ وَأَنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَمَعْت حَطَبًا، فَأَحْمَيْت الْمَاءَ، فَاغْتَسَلْت. فَأَخْبَرْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ» ؛ وَلِأَنَّهَا صِفَةٌ، خُلِقَ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَرَّدَهُ.
[فَصْلٌ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ]
(١٠) فَصْلٌ وَلَا تُكْرَهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُكْرَهُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ قُصِدَ إلَى تَشْمِيسِهِ فِي الْأَوَانِي،