للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مَسْأَلَةٌ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ]

(٧٨٠٤) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ، فَلَا يَأْكُلْ مِنْهَا إلَّا مَا يَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ) أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ، وَعَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا فِي الِاضْطِرَارِ.

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣] . وَيُبَاحُ لَهُ أَكْلُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ بِالْإِجْمَاعِ. وَيَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ، بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا. وَفِي الشِّبَعِ رِوَايَتَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا، لَا يُبَاحُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ.

قَالَ الْحَسَنُ: يَأْكُلُ قَدْرَ مَا يُقِيمُهُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَاسْتُثْنِيَ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ، فَإِذَا انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ؛ لِلْآيَةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ كَهُوَ قَبْلَ أَنْ يَضْطَرَّ. وَثَمَّ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْأَكْلُ، كَذَا هَاهُنَا. وَالثَّانِيَةُ، يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ.

اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، «أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ، فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: اسْلَخْهَا، حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا، وَنَأْكُلَهُ. فَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَك غِنًى يُغْنِيك؟ . قَالَ: لَا. قَالَ: فَكُلُوهَا» . وَلَمْ يُفَرِّقْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ، جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ، كَالْمُبَاحِ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً، وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الزَّوَالِ، فَمَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً، كَحَالَةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ الشِّبَعُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، عَادَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبُعْدِ عَنْ الْمَيْتَةِ، مَخَافَةَ الضَّرُورَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَيُفْضِي إلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَلَفِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَمِرَّةً، فَإِنَّهُ يَرْجُو الْغِنَى عَنْهَا بِمَا يَحِلُّ لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ، هِيَ الَّتِي يَخَافُ التَّلَفَ بِهَا إنْ تَرَكَ الْأَكْلَ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جُوعٍ، أَوْ يَخَافُ إنْ تَرَكَ الْأَكْلَ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ، وَانْقَطَعَ عَنْ الرُّفْقَةِ فَهَلَكَ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ الرُّكُوبِ فَيَهْلَكُ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِزَمَنٍ مَحْصُورٍ.

[فَصْلٌ هَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُضْطَرِّ]

(٧٨٠٥) فَصْلٌ: وَهَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُضْطَرِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛

<<  <  ج: ص:  >  >>