قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: بِيعَتْ بَرِيرَةُ بِعِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ، فَفِي ذَلِكَ أَبْيَنُ الْبَيَانِ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ، وَلَا أَعْلَمُ خَبَرًا يُعَارِضُهُ، وَلَا أَعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ دَلِيلًا عَلَى عَجْزِهَا. وَتَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَجَزَتْ، وَكَانَ بَيْعُهَا فَسْخًا لِكِتَابَتِهَا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، بَلْ قَوْلُهَا: أَعِينِينِي عَلَى كِتَابَتِي. دَلَالَةٌ عَلَى بَقَائِهَا عَلَى الْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّهَا أَخْبَرَتْهَا أَنَّ نُجُومَهَا فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَالْعَجْزُ إنَّمَا يَكُونُ بِمُضِيِّ عَامَيْنِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْعَجْزَ إلَّا بِحُلُولِ نَجْمَيْنِ، أَوْ بِمُضِيِّ عَامٍ عِنْدَ الْآخَرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ شِرَاءَ عَائِشَةَ لَهَا كَانَ فِي أَوَّلِ كِتَابَتِهَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُرِّيَّتِهَا مُسْتَقِرٌّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ بِحَالٍ، فَأَشْبَهَ الْوَقْفَ، وَالْمُكَاتَبُ يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الرِّقِّ، وَفَسْخُ كِتَابَتِهِ إذَا عَجَزَ، فَافْتَرَقَا. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَهَلْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَبِيعَ الْمُكَاتَبَ بِأَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهِ، لَمْ يَتَحَتَّمْ عِتْقُهُ، فَجَازَ بَيْعُهُ، كَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَأَنَّ مَوْلَاتَه لَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحْتَجِبُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَيْنَا فِي هَذَا عَنْ نَبْهَانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَتْ لِي أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبْهَانُ، هَلْ عِنْدَك مَا تُؤَدِّي؟ قُلْت: نَعَمْ. فَأَخْرَجَتْ الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، وَرَوَتْ هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ فَقُلْت: لَا وَاَللَّهِ عِنْدِي مَا أُؤَدِّي، وَلَا أَنَا بِمُؤَدٍّ. وَإِنَّمَا سَقَطَ الْحِجَابُ عَنْهَا مِنْهُ؛ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكَهَا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُهُ، وَلَا يَصِحُّ عِتْقُ مَنْ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَيَرْجِعُ عِنْدَ الْعَجْزِ إلَى كَوْنِهِ قِنًّا، وَلَوْ صَارَ حُرًّا، مَا عَادَ إلَى الرِّقِّ، وَيُفَارِقُ إعْتَاقَهُ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الرِّقَّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَيْسَ بِعَقْدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطٌ لِلْمِلْكِ فِيهِ، وَأَمَّا بَيْعُهُ، فَلَا يُمْنَعُ مَالِكُهُ بَيْعَهُ، وَأَمَّا الْبَائِعُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
[فَصْلٌ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ وَنَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ]
(٨٧٩٧) فَصْلٌ: وَتَجُوزُ هِبَتُهُ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ، وَنَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ مَنَعَ هِبَتَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِبَيْعِهِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهَا؛ لِأَنَّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهِ.
[مَسْأَلَةٌ مُشْتَرِي الْمُكَاتَبِ]
(٨٧٩٨) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمُشْتَرِيه يَقُومُ فِيهِ مَقَامَ الْمُكَاتِبِ، فَإِذَا أَدَّى، صَارَ حُرًّا. وَوَلَاؤُهُ لِمُشْتَرِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ مُكَاتَبٌ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ فِي الثَّمَنِ، أَوْ يَأْخُذَ مَا بَيَّنَهُ سَلِيمًا وَمُكَاتَبًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute