للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: ١٩٦] وَقَالَ: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: ٢٧] . وَكَانَ هَذَا مُتَنَاوِلًا لِلِاسْتِنَابَةِ فِيهِ. وَلِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وُجِدَ مِنْ نَائِبِهِ، فَحَنِثَ بِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَأَمَرَ مَنْ حَمَلَهُ إلَيْهَا.

وَقَوْلُهُمْ: إنَّ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَيْهِ تَقْتَضِي الْمُبَاشَرَةَ بِمَنْعِهِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ فِي فِعْلٍ يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَكِيلِ التَّوْكِيلُ فِيهِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا، فَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ يُقْصَدُ بِهِ الْأَمَانَةُ وَالْحِذْقُ، وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِيهِمَا، فَإِذَا عَيَّنَ وَاحِدًا، لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَةُ تَعْيِينِهِ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ.

فَأَمَّا إنْ نَوَى بِيَمِينِهِ الْمُبَاشَرَةَ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِيهَا، أَوْ قَرِينَةُ حَالِهِ، تَخَصَّصَ بِهَا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ يُقَيَّدُ بِنِيَّتِهِ، أَوْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ بِلَفْظِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَشْتَرِيَنَّ، أَوْ لَيَبِيعَنَّ، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ، فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، بَرَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي طَرَفِ النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ» . تَنَاوَلَ مَنْ حُلِقَ رَأْسُهُ بِأَمْرِهِ.

[فَصْلٌ حَلَفَ لِيُطَلِّقْنَ زَوْجَتَهُ أَوْ لَا يُطَلِّقُهَا فَوَكَّلَ مَنْ طَلَّقَهَا]

(٨٠١٠) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَيُطَلِّقَنَّ زَوْجَتَهُ، أَوْ لَا يُطَلِّقُهَا، فَوَكَّلَ مَنْ طَلَّقَهَا، أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَطَلَّقَهَا أَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي، أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِك. فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، بَرَّ، وَحَنِثَ. وَالْخِلَافُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت، أَوْ إنْ قُمْت. فَشَاءَتْ، أَوْ قَامَتْ حَنِثَ. بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هِيَ حَقَّقَتْ شَرْطَهُ.

[فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَلَطَمَهَا أَوْ لَكَمَهَا أَوْ ضَرَبَهَا بِعَصَا أَوْ غَيْرِهَا]

(٨٠١١) فَصْلٌ: فَإِنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ، فَلَطَمَهَا، أَوْ لَكَمَهَا، أَوْ ضَرَبَهَا بِعَصًا أَوْ غَيْرِهَا، حَنِثَ. بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَإِنْ عَضَّهَا، أَوْ خَنَقَهَا، أَوْ جَزَّ شَعْرَهَا جَزًّا يُؤْلِمُهَا، قَاصِدًا لِلْإِضْرَارِ بِهَا، حَنِثَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى ضَرْبًا، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، كَمَا لَوْ شَتَمَهَا شَتْمًا آلَمَهَا. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ مُهَنَّا نَقَلَ عَنْهُ، فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ أَضْرِبْك الْيَوْمَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَعَضَّهَا، أَوْ قَرَصَهَا، أَوْ أَمْسَكَ شَعْرَهَا، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الضَّرْبِ.

وَلَنَا، أَنَّ هَذَا فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ لِكَفِّ الْأَذَى الْمُؤْلِمِ لِلْجِسْمِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: تَضَارَبَا. إذَا فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَذَا بِصَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا آلَةٌ، وَفَارَقَ الشَّتْمَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْلِمُ الْجِسْمَ، وَإِنَّمَا يُؤْلِمُ الْقَلْبَ.

[مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا]

(٨٠١٢) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَمَنْ حَلَفَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ، أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا، حَنِثَ وَبِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ

<<  <  ج: ص:  >  >>