هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَدَاوُد: لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِآدَمِيٍّ بِقِصَاصٍ أَوْ حَقٍّ، لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهُ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسَّارِقِ: " مَا إخَالُك سَرَقْت. عَرَّضَ لَهُ لِيَرْجِعَ؛ وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، ثَبَتَ بِالِاعْتِرَافِ، فَقُبِلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ، كَحَدِّ الزِّنَا؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَرُجُوعُهُ عَنْهُ شُبْهَةٌ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَبَ عَلَى نَفْسِهِ فِي اعْتِرَافِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الْقَطْعِ، فَيَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ، كَالشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ حُجَّةَ الْقَطْعِ زَالَتْ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، فَسَقَطَ، كَمَا لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ.
وَفَارَقَ حَقَّ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، وَلَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ، لَمْ يَبْطُلْ بِرُجُوعِهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعْ اسْتِيفَاءَهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْقَطْعِ، سَقَطَ الْقَطْعُ، وَلَمْ يَسْقُطْ غُرْمُ الْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَلَوْ أَقَرَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَزِمَهُ غَرَامَةُ الْمَسْرُوقِ دُونَ الْقَطْعِ. وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ وَقَدْ قُطِعَ بَعْضُ الْمَفْصِلِ، لَمْ يُتْمِمْهُ إنْ كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ؛ لِكَوْنِهِ قَطَعَ قَلِيلًا، وَإِنْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ، فَالْمَقْطُوعُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ شَاءَ قَطَعَهُ؛ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ تَعْلِيقِ كَفِّهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْقَاطِعَ قَطْعُهُ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ تَدَاوٍ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ.
[فَصْلٌ تَلْقِينُ السَّارِقِ لِيَرْجِعَ عَنْ إقْرَارِهِ]
(٧٣١٣) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِ السَّارِقِ لِيَرْجِعَ عَنْ إقْرَارِهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ، فَسَأَلَهُ: أَسَرَقْت؟ قُلْ: لَا. فَقَالَ: لَا. فَتَرَكَهُ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلسَّارِقِ: " مَا أَخَالُك سَرَقْت ". وَقَالَ لِمَاعِزٍ: " لَعَلَّك قَبَّلْت، أَوْ لَمَسْت ". وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ فَانْتَهَرَهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ طَرَدَهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهُ.
وَلَا بَأْسَ بِالشَّفَاعَةِ فِي السَّارِقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ وَجَبَ» . وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ: يَفْعَلُ ذَلِكَ دُونَ السُّلْطَانِ، فَإِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ، فَلَا أَعْفَاهُ اللَّهُ إنْ أَعْفَاهُ. وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ الزُّبَيْرُ، وَعَمَّارٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ لَمْ يُعْرَفْ بِشَرٍّ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُ، مَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِمَامَ، وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِشَرٍّ وَفَسَادٍ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ حَتَّى يُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ الْإِمَامَ لَمْ تَجُزْ الشَّفَاعَةُ فِيهِ؛
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute