قَدْ مَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةٌ. وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: ٢٢٨] .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قُرْءُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ» . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ. وَلِأَنَّهُ مَعْنًى ذُو عَدَدٍ، بُنِيَ عَلَى التَّفَاضُلِ، فَلَا تُسَاوِي فِيهِ الْأَمَةُ الْحُرَّةَ، كَالْحَدِّ. وَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ حَيْضَةً وَنِصْفًا، كَمَا كَانَ حَدُّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرَّةِ، إلَّا أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَكَمَّلَ حَيْضَتَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجْعَلَ الْعِدَّةَ حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْت. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِالْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى، بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ.
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: إنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ. فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ.
[مَسْأَلَة عِدَّة مِنْ كَانَتْ مِنْ الْآيِسَاتِ أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَحِضْنَ]
(٦٣١١) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْآيِسَاتِ، أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَحِضْنَ، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: ٤] فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ، اُعْتُبِرَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: ١٨٩] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: ٣٦] .
وَلَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْأَهِلَّةِ. وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ اعْتَدَّتْ بَقِيَّتَهُ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ تَمَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ تَحْتَسِبُ بَقِيَّةَ الْأَوَّلِ، وَتَعْتَدُّ مِنْ الرَّابِعِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهَا مِنْ الْأَوَّلِ، تَامَّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ الْهِلَالِ، كَانَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَهِلَّةِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ، وَجَبَ قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنْهُ. وَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا وَجْهًا ثَانِيًا، أَنَّ جَمِيعَ الشُّهُورِ مَحْسُوبَةٌ بِالْعَدَدِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ إذَا حَسَبَ الْأَوَّلَ بِالْعَدَدِ، كَانَ ابْتِدَاءُ الثَّانِي مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ، فَيَجِبُ أَنْ يَحْسِبَ بِالْعَدَدِ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ.
وَلَنَا أَنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَعَلَى الثَّلَاثِينَ، وَلِذَلِكَ إذَا غُمَّ الشَّهْرُ كُمِّلَ ثَلَاثِينَ، وَالْأَصْلُ الْهِلَالُ، فَإِذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْهِلَالِ، اُعْتُبِرُوا، وَإِذَا تَعَذَّرَ، رُجِعَ إلَى الْعَدَدِ. وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذُكِرَ لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا التَّخْرِيجُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إتْمَامُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الثَّانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمَامُهُ مِنْ الرَّابِعِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute