إحْضَارُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى صِفَتِهَا إلَّا بِإِحْضَارِ الْبَدَنِ كُلِّهِ، فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ بِوَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا أُضِيفَ إلَى الْبَعْضِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إحْضَارُهُ بِدُونِ الْجُمْلَةِ مَعَ بَقَائِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَعْضِ الْبَدَنِ، وَلَا تَصِحُّ إلَّا فِي جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَسْرِي لَا يَصِحُّ إذَا خُصَّ بِهِ عُضْوٌ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
[فَصْلٌ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ كُلّ مَنْ يَلْزَمُ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِدِينِ لَازِمٍ]
(٣٥٩٥) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ كُلِّ مَنْ يَلْزَمُ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِدَيْنٍ لَازِمٍ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا؛ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَاب الشَّافِعِيَّةِ: لَا تَصِحُّ بِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ، وَلَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ مِنْهُ لِجَهْلِهِ.
وَلَنَا، أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْبَدَنِ لَا بِالدَّيْنِ، وَالْبَدَنُ مَعْلُومٌ، فَلَا تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ لِاحْتِمَالِ عَارِضٍ، وَلِأَنَّا قَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الْمَجْهُولِ يَصِحُّ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَالِ ابْتِدَاءً، فَالْكَفَالَةُ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ ابْتِدَاءً أَوْلَى. وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَجِبُ إحْضَارُهُمَا مَجْلِسَ الْحُكْمِ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا بِالْإِتْلَافِ، وَإِذْنُ وَلِيِّهِمَا يَقُومُ مَقَامَ إذْنِهِمَا.
وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ الْمَحْبُوسِ وَالْغَائِبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِحُّ. وَلَنَا، أَنَّ كُلَّ وَثِيقَةٍ صَحَّتْ مَعَ الْحُضُورِ صَحَّتْ مَعَ الْغَيْبَةِ وَالْحَبْسِ، كَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ، لِكَوْنِ الْمَحْبُوسِ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، أَوْ أَمْرِ مَنْ حَبَسَهُ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَى الْحَبْسِ بِالْحَقَّيْنِ جَمِيعًا، وَالْغَائِبُ يَمْضِي إلَيْهِ فَيُحَضِّرُهُ إنْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ خَبَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ خَبَرَهُ، لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ: قَالَهُ الْقَاضِي.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَلْزَمُهُ مَا عَلَيْهِ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ الرَّدُّ فِيهَا، فَلَا يَفْعَلُ.
[فَصْلٌ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ]
(٣٥٩٦) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ، سَوَاءٌ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، أَوْ لِآدَمِي كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي حُدُودِ الْآدَمِيِّ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: لَا كَفَالَةَ فِي حُدُودِ الْآدَمِيِّ وَلَا لِعَانَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِمَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ أَوْ حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِي، فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ» . وَلِأَنَّهُ حَدٌّ، فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ فِيهِ كَحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ اسْتِيثَاقٌ، وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِسْقَاطِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute