فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الِاتِّفَاقُ فِي بَعْضِ الْعَصْر إجْمَاعًا، حَرُمَتْ مُخَالَفَتُهُ، فَكَيْفَ خَالَفَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ، الَّذِينَ لَا تَجُوزُ نِسْبَتُهُمْ إلَى ارْتِكَابِ الْحَرَامِ؟ قُلْنَا: الْإِجْمَاعُ يَنْقَسِمُ إلَى مَقْطُوعٍ بِهِ وَمَظْنُونٍ، وَهَذَا مِنْ الْمَظْنُونِ، فَيُمْكِنُ وُقُوعُ الْمُخَالَفَةِ مِنْهُمْ لَهُ، مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً، كَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مُخَالَفَةُ النُّصُوصِ الظَّنِّيَّةِ، وَلَا تَخْرُجْ بِمُخَالَفَتِهِمْ عَنْ كَوْنِهَا حُجَّةً، كَذَا هَاهُنَا. فَأَمَّا قَوْلُ جَابِرٍ: «بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَأَبِي بَكْر فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ كَانَ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عِلْمِ أَبِي بَكْر فَيَكُونُ ذَلِكَ وَاقِعًا مِنْ فِعْلِهِمْ عَلَى انْفِرَادِهِمْ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا وَاقِعًا بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَأَقَرَّا عَلَيْهِ، لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ، وَلَمْ يُجْمِعْ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُمَا عَلَى مُخَالَفَتِهِمَا، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ، لَمْ يَخْلُ مِنْ مُنْكِرٍ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُ: كَيْفَ يُخَالِفُونَ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ، وَفِعْلَ صَاحِبِهِ؟ وَكَيْفَ يَتْرُكُونَ سُنَّتَهُمَا، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّا؟ مِنْ هَذَا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا بِعِلْمِهِمَا، لَاحْتَجَّ بِهِ عَلِيٌّ حِينَ رَأَى بَيْعَهُنَّ، وَاحْتَجَّ بِهِ كُلُّ مَنْ وَافَقَهُ عَلَى بَيْعِهِنَّ، وَلَمْ يَجْرِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْأَمْرُ عَلَى مَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ إذًا حُجَّةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ بَاعُوا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي النِّكَاحِ، لَا فِي الْمِلْكِ.
[فَصْلٌ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ]
(٨٨٥٢) فَصْلٌ: وَمَنْ أَجَازَ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ، فَعَلَى قَوْلِهِ، إنْ لَمْ يَبِعْهَا حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ إلَّا وَلَدُهَا، عَتَقَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا وَارِثٌ سِوَى وَلَدِهَا، حُسِبَتْ مِنْ نَصِيبِ وَلَدِهَا، فَعَتَقَتْ، وَكَانَ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْ مِيرَاثِهِ. وَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ، عَتَقَ مِنْهَا قَدْرُ نَصِيبِهِ، وَبَاقِيهَا رَقِيقٌ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إذَا وَرِثَ سَهْمًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، سَرَى الْعِتْقُ إلَى بَاقِيه. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ مِنْ سَيِّدِهَا، وَرِثَهَا وَوَرِثَتْهُ، كَسَائِرِ رَقِيقِهِ.
[مَسْأَلَةٌ أَصَابَ الْأَمَةَ وَهِيَ مِلْكُ غَيْرِهِ بِنِكَاحِ فَحَمَلَتْ مِنْهُ ثُمَّ مَلَكَهَا حَامِلًا]
(٨٨٥٣) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَ الْأَمَةَ، وَهِيَ مِلْكُ غَيْرِهِ، بِنِكَاحٍ فَحَمَلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ مَلَكَهَا حَامِلًا، عَتَقَ الْجَنِينُ، وَكَانَ لَهُ بَيْعُهَا) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةَ غَيْرِهِ، فَأَوْلَدَهَا، أَوْ أَحْبَلَهَا، ثُمَّ مَلَكَهَا بِشِرَاءٍ، أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ مَلَكَهَا حَامِلًا فَوَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ مَلَكَهَا بَعْدَ وِلَادَتِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِمَمْلُوكٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ، كَمَا لَوْ زَنَى بِهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ، وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا الْأَصْلُ فِيمَا إذَا حَمَلَتْ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ، بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute