قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَفْسِيرِهَا: ضَعُوا عَنْهُمْ رُبُعَ مَالِ الْكِتَابَةِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: ضَعُوا عَنْهُمْ مِنْ مُكَاتَبَتِهِمْ شَيْئًا.
وَتُخَالِفُ الْكِتَابَةُ سَائِرَ الْعُقُودِ؛ فَإِنَّ الْقَصْدَ بِهَا الرِّفْقُ بِالْعَبْدِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ يُسْتَحَقُّ بِهَا الْوَلَاءُ عَلَى الْعَبْدِ مَعَ الْمُعَاوَضَةِ، فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعَبْدُ عَلَى السَّيِّدِ شَيْئًا. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِيتَاءِ، إعْطَاؤُهُ سَهْمًا مِنْ الصَّدَقَةِ، أَوْ النَّدْبُ إلَى التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ الْعِوَضَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَقْتَضِي إسْقَاطَ شَيْءٍ مِنْهُ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَسَّرَاهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُمَا أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَحَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ. قُلْنَا: إنَّمَا يَجِبُ لِلرِّفْقِ بِهِ عِنْدَ آخِرِ كِتَابَتِهِ، مُوَاسَاةً لَهُ، وَشُكْرًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ مُوَاسَاةً مِنْ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَلِيَ جَمْعَ هَذَا الْمَالِ، وَتَعِبَ فِيهِ، فَاقْتَضَى الْحَالُ مُوَاسَاتَهُ مِنْهُ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِطْعَامِهِ مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ، وَاخْتَصَّ هَذَا بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعُونَةً عَلَى الْعِتْقِ، وَإِعَانَةً لِمَنْ يَحِقُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَوْنُهُ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَوْنُهُمْ، الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
[فَصْلٌ قَدْرُ مَا يُوضَعُ عَنْ الْمُكَاتَبِ]
(٨٧٠٩) الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي قَدْرِهِ، وَهُوَ الرُّبُعُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْعُشْرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُجْزِئُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، إلَّا أَنَّهُ عِنْدَهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: ٣٣] . (وَمِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، وَالْقَلِيلُ بَعْضٌ، فَيُكْتَفَى بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَعُوا عَنْهُمْ مِنْ مُكَاتَبَتِهِمْ شَيْئًا.
وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ، بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلَوْ وَجَبَ إيتَاؤُهُ الرُّبُعَ، لَوَجَبَ أَنْ يَعْتِقَ إذَا أَدَّى ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَالٍ يَجِبُ رَدُّهُ إلَيْهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute