[مَسْأَلَةٌ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تَلْزَمُ الْهِبَةُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ]
(٤٤٤٣) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيَصِحُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَبْضٍ إذَا قَبِلَ، كَمَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ) يَعْنِي أَنَّ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تَلْزَمُ الْهِبَةُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَوْهُوبِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: الْهِبَةُ جَائِزَةٌ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ فِي الْجَمِيعِ إلَّا بِالْقَبْضِ
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيُّ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْهِبَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ التَّمْلِيكِ، فَكَانَ مِنْهَا مَا لَا يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمِنْهَا مَا يَلْزَمُ قَبْلَهُ، كَالْبَيْعِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا لَا يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ الصَّرْفُ، وَبَيْعُ الرِّبَوِيَّاتِ، وَمِنْهُ مَا يَلْزَمُ قَبْلَهُ، وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ، فَلَا يَلْزَمُ، فَإِنَّ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ عِشْرِينَ وَسْقًا مَجْذُوذَةً، فَيَكُون مَكِيلًا، غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْقَبْضِ. وَإِنْ أَرَادَ نَخْلًا يَجُذُّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا تَصِحُّ الْهِبَةُ فِيهِ قَبْلَ تَعْيِينِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَعَدْتُك بِالنِّحْلَةِ. وَقَوْلُ عُمَرَ أَرَادَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ التَّحَيُّلِ بِنِحْلَةِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ نِحْلَةً مَوْقُوفَةً عَلَى الْمَوْتِ، فَيُظْهِرُ: إنِّي نَحَلْت وَلَدِي شَيْئًا
وَيُمْسِكُهُ فِي يَدِهِ وَيَسْتَغِلُّهُ، فَإِذَا مَاتَ أَخَذَهُ وَلَدُهُ بِحُكْمِ النِّحْلَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا، وَإِنْ مَاتَ وَلَدُهُ أَمْسَكَهُ، وَلَمْ يُعْطِ وَرَثَةَ وَلَدِهِ شَيْئًا. وَهَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُحَرَّمٌ، فَنَهَاهُمْ عَنْ هَذَا حَتَّى يَحُوزَهَا الْوَلَدُ دُونَ وَالِدِهِ، فَإِنْ مَاتَ وَرِثَهَا وَرَثَتُهُ، كَسَائِرِ مَالِهِ. وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هَذَا اخْتَصَّ بِهِبَةِ الْوَلَدِ دُونَ وَالِدِهِ، وَشِبْهِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ خِلَافُ ذَلِكَ، فَتَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمْ.
[فَصْلٌ يُسْتَغْنَى عَنْ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ فِي مَوْضِعٍ وُجِدَ فِيهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ]
(٤٤٤٤) فَصْلٌ: قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: (إذَا قَبِلَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْقَبْضِ فِي مَوْضِعٍ وُجِدَ فِيهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ. وَالْإِيجَابُ أَنْ يَقُولَ: وَهَبْتُك، أَوْ أَهْدَيْت إلَيْك، أَوْ أَعْطَيْتُك، أَوْ هَذَا لَك. وَنَحْوَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَالْقَبُولُ أَنْ يَقُولَ: قَبِلْت، أَوْ رَضِيت، أَوْ نَحْوَ هَذَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّ الْهِبَةَ وَالْعَطِيَّةَ لَا تَصِحُّ كُلُّهَا إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَبْضُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ، فَافْتَقَرَ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، كَالنِّكَاحِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُعَاطَاةَ وَالْأَفْعَالَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَافِيَةٌ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى لَفْظٍ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُهْدِي وَيُهْدَى إلَيْهِ، وَيُعْطِي وَيُعْطَى، وَيُفَرِّقُ الصَّدَقَاتِ، وَيَأْمُرُ سُعَاتَهُ بِتَفْرِيقِهَا وَأَخْذِهَا، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ "
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ، وَلَا أَمْرٌ بِهِ وَلَا تَعْلِيمُهُ لِأَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute