الثَّانِي أَنَّ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ التَّأْوِيلِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ، وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي لَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ سِوَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ بَعْضِهَا عَلَى مَا فَسَّرَهُ رِوَايَةً بِهِ أَوْلَى مِنْ التَّحَكُّمِ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُمْ يُفْضِي إلَى تَقْيِيدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ حَمْلٌ لِأَحَدِهِمَا وَحْدَهُ.
الرَّابِعُ أَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مُوَافَقَةَ عَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَهْلَيْهِمْ، وَفُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّتِهِ وَمَعَانِيهَا، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُمْ. الْخَامِسُ، أَنَّ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ رَوَى ذَلِكَ عَنْ كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ، وَعَنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَأَهْلَيْهِمْ، وَفُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَاسْتِمْرَارُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ خَفَاؤُهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا
وَمَا رُوِيَ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ، فَيَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لَا يُسَوَّغُ لَأَحَدٍ خِلَافُهُ. وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيه، فَإِنَّ الْأَرْضَ عَيْنٌ تُنَمَّى بِالْعَمَلِ فِيهَا، فَجَازَتْ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا، كَالْأَثْمَانِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالنَّخْلِ فِي الْمُسَاقَاةِ، أَوْ نَقُولُ: أَرْضٌ، فَجَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهَا، كَالْأَرْضِ بَيْنَ النَّخِيلِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْضِ قَدْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى زَرْعِهَا، وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا، وَالْأَكَرَةُ يَحْتَاجُونَ إلَى الزَّرْعِ. وَلَا أَرْضَ لَهُمْ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ
بَلْ الْحَاجَةُ هَا هُنَا آكَدُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الزَّرْعِ آكَدُ مِنْهَا إلَى غَيْرِهِ، لِكَوْنِهِ مُقْتَاتًا، وَلِكَوْنِ الْأَرْضِ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ رَاوِي حَدِيثِهِمْ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا. وَالشَّارِعُ لَا يَنْهَى عَنْ الْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا يَنْهَى عَنْ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى غَلَطِ الرَّاوِي فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا ظَنَّهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ حُكْمَ الْمُزَارَعَةِ حُكْمُ الْمُسَاقَاةِ، فِي أَنَّهَا إنَّمَا تَجُوزُ بِجُزْءٍ لِلْعَامِلِ مِنْ الزَّرْعِ، وَفِي جَوَازِهَا، وَلُزُومِهَا، وَمَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ وَرَبَّ الْأَرْضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا.
[فَصْلٌ كَانَ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ وَبَيْنَهُ بَيَاضُ أَرْضٍ فَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ وَزَارِعه الْأَرْضَ الَّتِي بَيْن الشَّجَرِ]
(٤١٣٩) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ، وَبَيْنَهُ بَيَاضُ أَرْضٍ، فَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ، وَزَارَعَهُ الْأَرْضَ الَّتِي بَيْنَ الشَّجَرِ جَازَ، سَوَاءٌ قَلَّ بَيَاضُ الْأَرْضِ أَوْ كَثُرَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: قَدْ دَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ عَلَى هَذَا. وَبِهَذَا قَالَ كُلُّ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ فِي الْأَرْضِ الْمُفْرَدَةِ. فَإِذَا قَالَ: سَاقَيْتُك عَلَى الشَّجَرِ، وَزَارَعْتُك عَلَى الْأَرْضِ بِالنِّصْفِ. جَازَ. وَإِنْ قَالَ: عَامَلْتُك عَلَى الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ عَلَى النِّصْفِ، جَازَ؛ لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute