أَنْفُسَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ» وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ: " أَطْعِمْهُ نَاضِحَك أَوْ رَقِيقَك ". وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ هَذَا بِمَيْتَةٍ. يَعْنِي أَنَّ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا تَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ، وَلَيْسَ هَذَا بِدَاخِلٍ فِي النَّهْيِ، وَلَا فِي مَعْنَاهَا؛ وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ شُحُومِ الْمَيْتَةِ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْضِي إلَى تَعَدِّي نَجَاسَتِهَا، وَاسْتِعْمَالِ مَا دُهِنَتْ بِهِ مِنْ الْجُلُودِ، فَيَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجَاسَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا؛ فَإِنَّ نَجَاسَةَ هَذَا لَا تَتَعَدَّى أَكْلَهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يُطْعَمُ لِشَيْءٍ يُؤْكَلُ فِي الْحَالِ، وَلَا يُحْلَبُ لَبَنُهُ، لِئَلَّا يَتَنَجَّسَ بِهِ، وَيَصِيرَ كَالْجَلَّالِ.
[مَسْأَلَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً مَائِعَةً]
(٣٦) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (إلَّا أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً مَائِعَةً فَإِنَّهُ يَنْجُسُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْمَصَانِعِ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا، فَذَاكَ الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ) يَعْنِي بِالْمَصَانِعِ: الْبِرَكَ الَّتِي صُنِعَتْ مَوْرِدًا لِلْحَاجِّ، يَشْرَبُونَ مِنْهَا، يَجْتَمِعُ فِيهَا مَاءٌ كَثِيرٌ وَيَفْضُلُ عَنْهُمْ، فَتِلْكَ لَا تَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ، مِثْلُ الرِّجْلِ مِنْ الْبَحْرِ وَنَحْوِهِ، إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَلَمْ تُغَيِّرْ لَهُ لَوْنًا وَلَا طَعْمًا وَلَا رِيحًا، أَنَّهُ بِحَالِهِ يُتَطَهَّرُ مِنْهُ، فَأَمَّا مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ، إلَّا بِبَوْلِ الْآدَمِيِّينَ، أَوْ عَذِرَتِهِمْ الْمَائِعَةِ؛ فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، أَشْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِذَلِكَ.
رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَحَدَّثَنَا عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَبِيٍّ بَالَ فِي بِئْرٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْزِفُوهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَوَجْهُ ذَلِكَ: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: " ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ ". صَحِيحٌ. وَلِلْبُخَارِيِّ: «ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ.»
وَهَذَا مُتَنَاوِلٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ خَاصٌّ فِي الْبَوْلِ، وَأَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَقِيلٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ» .
وَلِأَنَّ بَوْلَ الْآدَمِيِّ لَا تَزِيدُ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْلِ الْكَلْبِ، وَهُوَ لَا يُنَجِّسُ الْقُلَّتَيْنِ، فَبَوْلُ الْآدَمِيِّ أَوْلَى، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ يُخَصُّ بِخَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ بِخَبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَسَاوَى الْحَدِيثَانِ لَوَجَبَ الْعُدُولُ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ النَّجَاسَاتِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute