قَبْلَ الْبُلُوغِ يَمْنَعُ ذَلِكَ، فَكَانَ أَوْلَى. لَكِنْ لَا يُخْتَبَرُ إلَّا الْمُرَاهِقُ الْمُمَيِّزُ، الَّذِي يَعْرِفُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ. وَالْمَصْلَحَةَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ. وَمَتَى أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فَتَصَرَّفَ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى.
وَقَدْ أَوْمَأَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ إلَى اخْتِبَارِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَظِنَّةُ الْعَقْلِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي وَقْتِ الِاخْتِبَارِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ.
[مَسْأَلَةٌ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ ثُمَّ عَادَ إلَى السَّفَهِ]
(٣٤٧٨) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ عَاوَدَ السَّفَهَ، حُجِرَ عَلَيْهِ) وَجُمْلَتُهُ، أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ لِرُشْدِهِ وَبُلُوغِهِ، وَدُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ، ثُمَّ عَادَ إلَى السَّفَهِ، أُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ. وَبِهَذَا قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُبْتَدَأُ الْحَجْرُ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ، وَتَصَرُّفُهُ نَافِذٌ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ، فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ. وَلَنَا.
إجْمَاعُ
الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ابْتَاعَ بَيْعًا، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَآتِيَنَّ عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْك. فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّبَيْرَ، فَقَالَ: قَدْ ابْتَاعَ بَيْعًا، وَإِنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، فَيَسْأَلَهُ الْحَجْرَ عَلَيَّ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُك فِي الْبَيْعِ. فَأَتَى عَلِيٌّ عُثْمَانَ، فَقَالَ إنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ قَدْ ابْتَاعَ بَيْعَ كَذَا، فَاحْجُرْ عَلَيْهِ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ فِي الْبَيْعِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ.
قَالَ أَحْمَدُ: لَمْ أَسْمَعْ هَذَا إلَّا مِنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي. وَهَذِهِ قِصَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا، وَلَمْ يُخَالِفْهَا أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَتَكُونُ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّ هَذَا سَفِيهٌ، فَيَحْجُرُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَلَغَ سَفِيهًا؛ فَإِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي اقْتَضَتْ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا سَفَهُهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلِأَنَّ السَّفَهَ لَوْ قَارَنَ الْبُلُوغَ مَنَعَ دَفْعَ مَالِهِ إلَيْهِ، فَإِذَا حَدَثَ، أَوْجَبَ انْتِزَاعَ الْمَالِ كَالْجُنُونِ. وَفَارَقَ الرَّشِيدَ؛ فَإِنَّ رُشْدَهُ لَوْ قَارَنَ الْبُلُوغَ لَمْ يَمْنَعْ دَفْعَ مَالِهِ إلَيْهِ.
[فَصْلٌ لَا يَحْجُر عَلَى السَّفِيه إلَّا الْحَاكِمُ]
(٣٤٧٩) فَصْلٌ: وَلَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ إلَّا الْحَاكِمُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ تَبْذِيرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْحَجْرِ، فَأَشْبَهَ الْجُنُونَ. وَلَنَا: أَنَّ التَّبْذِيرَ يَخْتَلِفُ، وَيُخْتَلَفُ فِيهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى الِاجْتِهَادِ، فَإِذَا افْتَقَرَ السَّبَبُ إلَى الِاجْتِهَادِ، لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، كَابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْعُنَّةِ، وَلِأَنَّهُ حَجْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَفَارَقَ الْجُنُونَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَمَتَى حُجِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ فَرَشَدَ، فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ. وَلَا يَزُولُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَزُولُ السَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْحَجْرِ، فَيَزُولُ بِزَوَالِهِ، كَمَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute