وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ التَّحَلُّلِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ مَعَ ذَلِكَ الْإِقَامَةُ مَعَ إحْرَامِهِ، رَجَاءَ زَوَالِ الْحَصْرِ، فَمَتَى زَالَ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ، فَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ لِإِتْمَامِ نُسُكِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّ مَنْ يَئِسِ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ، إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مَنَاسِكَهُ، وَإِنْ زَالَ الْحَصْرُ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَجِّ، تَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَإِنْ فَاتَ الْحَجُّ قَبْلَ زَوَالِ الْحَصْرِ، تَحَلَّلَ بِهَدْيٍ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ هَاهُنَا هَدَيَانِ؛ هَدْيٌ لِلْفَوَاتِ، وَهَدْيٌ لِلْإِحْصَارِ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، هَدْيًا ثَانِيًا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَتَحَلَّلُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ.
[فَصْل أُحْصِرَ عَنْ الْبَيْتِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَة]
(٢٤٣٠) فَصْلٌ: فَإِنْ أُحْصِرَ عَنْ الْبَيْتِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ يُفِيدُهُ التَّحَلُّلُ مِنْ جَمِيعِهِ، فَأَفَادَ التَّحَلُّلَ مِنْ بَعْضِهِ. وَإِنْ كَانَ مَا حُصِرَ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، كَالرَّمْيِ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ أَوْ بِمِنًى فِي لَيَالِيهَا، فَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْحَجِّ لَا تَقِفُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَرْكِهِ ذَلِكَ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ.
وَإِنْ أُحْصِرَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ إنَّمَا هُوَ عَنْ النِّسَاءِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ التَّامِّ، الَّذِي يُحَرِّمُ جَمِيعَ مَحْظُورَاتِهِ، فَلَا يَثْبُتُ بِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ، وَمَتَى زَالَ الْحَصْرُ أَتَى بِالطَّوَافِ، وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ.
[فَصْل الْمَحْصِر إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْبَيْتِ وَصُدَّ عَنْ عَرَفَة]
(٢٤٣١) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبَيْتِ وَيُصَدُّ عَنْ عَرَفَةَ، فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ، وَيَجْعَلَهُ عُمْرَةً، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، فَمَعَ الْحَصْرِ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ قَدْ طَافَ وَسَعَى لِلْقُدُومِ، ثُمَّ أُحْصِرَ، أَوْ مَرِضَ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ، تَحَلَّلَ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ طَوَافَ الْعُمْرَةِ، وَلَا سَعْيَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَكُونُ مُحْصَرًا بِمَكَّةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ. فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ فَاتَهُ بِغَيْرِ حَصْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ، وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ الْمُعْتَمِرُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُتَمِّمُ عَنْهُ أَفْعَالَ الْحَجِّ، جَازَ فِي التَّطَوُّعُ؛ لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي جُمْلَتِهِ، فَجَازَ فِي بَعْضِهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ، إلَّا إنْ يَئِسَ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ، كَمَا فِي الْحَجِّ كُلِّهِ.
[فَصْل تَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ مِنْ الْحَجِّ فَزَالَ الْحَصْرُ وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ]
(٢٤٣٢) فَصْلٌ: وَإِذَا تَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ مِنْ الْحَجِّ، فَزَالَ الْحَصْرُ، وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ لَزِمَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، أَوْ كَانَتْ الْحَجَّةُ وَاجِبَةً فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْحَجَّةُ وَاجِبَةً، وَلَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَنْ لَمْ يُحْرِمْ.