للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا يَمِينٌ. وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: لَا يَمِينَ فِي نِكَاحٍ وَلَا طَلَاقٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا يَصِحُّ بَذْلُهَا، فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا، كَالْحُدُودِ. وَالْأَوَّلُ؛ أَوْلَى؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ يُمْكِنُ صِدْقُ مُدَّعِيهِ، فَيَجِبُ الْيَمِينُ فِيهِ، كَالْأَمْوَالِ.

فَإِنْ نَكَلَتْ عَنْ الْيَمِينِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَصِحُّ بَذْلُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسْتَحْلَفُ الزَّوْجُ، وَلَهُ رَجْعَتُهَا، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ النُّكُولُ مِنْهَا، ظَهَرَ صِدْقُ الزَّوْجِ، وَقَوِيَ جَانِبُهُ، وَالْيَمِينُ تُشْرَعُ فِي حَقِّ مَنْ قَوِيَ جَانِبُهُ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِقُوَّةِ جَانِبِهِ بِالْيَدِ فِي الْعَيْنِ، وَبِالْأَصْلِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فِي الدَّيْنِ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

[فَصْلٌ ادَّعَى الزَّوْجُ فِي عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا أَمْسِ أَوْ مُنْذُ شَهْرٍ]

(٦٠٩١) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ فِي عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا أَمْسِ، أَوْ مُنْذُ شَهْرٍ قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الرَّجْعَةَ، مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهَا، كَالطَّلَاقِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ.

وَإِنْ قَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا: كُنْت رَاجَعْتُك فِي عِدَّتِك. فَأَنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِإِجْمَاعِهِمْ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَاهَا فِي زَمَنٍ لَا يَمْلِكُهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا وَحُصُولُ الْبَيْنُونَةِ. فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي زَمَنٍ يُمْكِنُ فِيهِ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، وَبَقَاؤُهَا، فَبَدَأَتْ فَقَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي. فَقَالَ: قَدْ كُنْت رَاجَعْتُك. فَأَنْكَرَتْهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ خَبَرَهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مَقْبُولٌ؛ لِإِمْكَانِهِ، فَصَارَتْ دَعْوَاهُ لِلرَّجْعَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَلَمْ تُقْبَلْ. فَإِنْ سَبَقَهَا بِالدَّعْوَى، فَقَالَ: قَدْ كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ. فَقَالَتْ: قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ دَعْوَاك. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ لِلرَّجْعَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي زَمَنٍ الظَّاهِرُ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِهِ.

وَلَوْ سَبَقَ فَقَالَ: قَدْ رَاجَعْتُكِ. فَقَالَتْ: قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ. فَأَنْكَرَهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ، سَوَاءٌ سَبَقَهَا بِالدَّعْوَى، أَوْ سَبَقَتْهُ. وَهُوَ وَجْهٌ ثَانٍ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْبَيْنُونَةُ، وَالْأَصْلَ عَدَمُ الرَّجْعَةِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهَا، وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَ قَوْلُهُ سَابِقًا، قُبِلَ قَوْلُهُ مَسْبُوقًا، كَسَائِرِ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ.

وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي مَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ وَهُوَ يُنْكِرُهُ، فَكَانَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمُولِي وَالْعِنِّينُ إصَابَةَ امْرَأَتِهِ، فَأَنْكَرَتْهُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهُ قَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ الْبَيْنُونَةِ، وَهُوَ مُفْضٍ إلَيْهَا، مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَرْفَعُهُ وَيُزِيلُ حُكْمَهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ [قَوْلَ] مَنْ يُنْكِرُهُ، بِخِلَافِ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ. وَإِنْ وَقَعَ الْقَوْلُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَلَا رَجْعَةَ؛ لِأَنَّ خَبَرَهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا يَكُونُ

<<  <  ج: ص:  >  >>