وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ: لَيْسَ لِلْغَائِبِ شُفْعَةٌ وَبِهِ قَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَالْبَتِّيُّ، إلَّا لِلْغَائِبِ الْقَرِيبِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الشُّفْعَةِ لَهُ يَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي، وَيَمْنَعُ مِنْ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِ، خَوْفًا مِنْ أَخْذِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ كَثُبُوتِهِ لِلْحَاضِرِ عَلَى التَّرَاخِي.
وَلَنَا، عُمُومُ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» . وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ وُجِدَ سَبَبُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَائِبِ، فَيَثْبُتُ لَهُ، كَالْإِرْثِ، وَلِأَنَّهُ شَرِيكٌ لَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ، فَتَثْبُتُ لَهُ الشُّفْعَةُ عِنْدَ عِلْمِهِ، كَالْحَاضِرِ إذَا كُتِمَ عَنْهُ الْبَيْعُ، وَالْغَائِبِ غَيْبَةً قَرِيبَةً، وَضَرَرُ الْمُشْتَرِي يَنْدَفِعُ بِإِيجَابِ الْقِيمَةِ لَهُ، كَمَا فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ إلَّا وَقْتَ قُدُومِهِ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِ، فَتَرَاخِي الزَّمَانِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ لَا يُسْقِطُهُ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَمَتَى عَلِمَ فَحُكْمُهُ فِي الْمُطَالَبَةِ حُكْمُ الْحَاضِرِ، فِي أَنَّهُ إنْ طَالَبَ عَلَى الْفَوْرِ اسْتَحَقَّ، وَإِلَّا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَحُكْمُ الْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ وَسَائِرِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْبَيْعَ لِعُذْرٍ حُكْمُ الْغَائِبِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
[مَسْأَلَةٌ الشَّفِيع عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَهُوَ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى مُطَالَبَتِهِ بِالشُّفْعَةِ]
(٤٠٣١) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ عَلِمَ وَهُوَ فِي السَّفَرِ، فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى مُطَالَبَتِهِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى عَلِمَ الْغَائِبُ بِالْبَيْعِ، وَقَدَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ وَعَلَى الْمُطَالَبَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ، أَنَّ شُفْعَتَهُ تَسْقُطُ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى التَّوْكِيلِ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ، أَوْ سَارَ عَقِيبَ الْعِلْمِ أَوْ أَقَامَ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فِي الْغَائِبِ: لَهُ الشُّفْعَةُ إذَا بَلَغَهُ أَشْهَدَ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ.
وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عُذْرُهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَرَكَ الشُّفْعَةَ لِذَلِكَ. فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الطَّلَبَ لِلْعُذْرِ، وَقَدْ يَتْرُكُهُ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ يَسِيرُ لِطَلَبِ الشُّفْعَةِ، وَقَدْ يَسِيرُ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ قَدَرَ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ، كَتَارِكِ الطَّلَبِ مَعَ حُضُورِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ سَارَ عَقِيبَ عِلْمِهِ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ، احْتَمَلَ أَنْ لَا تَبْطُلَ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ سَيْرِهِ أَنَّهُ لِلطَّلَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِي.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهُ مِنْ الْأَجَلِ بَعْدَ الْعِلْمِ قَدْرُ السَّيْرِ، فَإِنْ مَضَى الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ أَوْ يَطْلُبَ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ. وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ: لَهُ مَسَافَةُ الطَّرِيقِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ فِي تَرْكِ الطَّلَبِ ظَاهِرٌ، فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَهُ إلَى الشَّهَادَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْإِشْهَادِ فِي سَفَرِهِ، أَنَّ شُفْعَتَهُ لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ الطَّلَبَ لِعُذْرٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute