الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ سَرَفٌ وَلَا خُيَلَاءُ، فَأَشْبَهَ الضَّبَّةَ مِنْ الصُّفْرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُبَاحُ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُبَاحُ كَالْحَلْقَةِ، وَمَا لَا يُسْتَعْمَلُ كَالضَّبَّةِ يُبَاحُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا يُبَاحُ الْيَسِيرُ إلَّا لِحَاجَةٍ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِي تَشْعِيبِ الْقَدَحِ فِي مَوْضِعِ الْكَسْرِ، وَهُوَ لِحَاجَةٍ، وَمَعْنَى الْحَاجَةِ أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى مَا فَعَلَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَتُكْرَهُ مُبَاشَرَةُ مَوْضِعِ الْفِضَّةِ بِالِاسْتِعْمَالِ؛ كَيْ لَا يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لَهَا، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[فَصْل الْوُضُوء فِي الْأَوَانَيْ النَّفِيسَة غَيْر الذَّهَب وَالْفِضَّة]
(٩١) فَصْلٌ: فَأَمَّا سَائِرُ الْآنِيَةِ فَمُبَاحٌ اتِّخَاذُهَا وَاسْتِعْمَالُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ ثَمِينَةً، كَالْيَاقُوتِ وَالْبِلَّوْرِ وَالْعَقِيقِ وَالصُّفْرِ وَالْمَخْرُوطِ مِنْ الزُّجَاجِ، أَوْ غَيْرَ ثَمِينَةٍ، كَالْخَشَبِ وَالْخَزَفِ وَالْجُلُودِ. وَلَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْهَا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ فِي الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَاخْتَارَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَغَيَّرُ فِيهَا، وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْرَهُ رِيحَ النُّحَاسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: مَا كَانَ ثَمِينًا لِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْأَثْمَانِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ سَرَفًا وَخُيَلَاءَ وَكَسْرَ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، فَكَانَ مُحَرَّمًا كَالْأَثْمَانِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ، فَتَوَضَّأَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَوْرٍ مِنْ شَبَهٍ» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَثْمَانِ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ، فَلَا تَنْكَسِرُ قُلُوبُ الْفُقَرَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ، بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ.
وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ لِقِلَّتِهَا لَا يَحْصُلُ اتِّخَاذُ الْآنِيَةِ مِنْهَا إلَّا نَادِرًا، فَلَا تُفْضِي إبَاحَتُهَا إلَى اتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا، وَتَعَلُّقُ التَّحْرِيمِ بِالْأَثْمَانِ الَّتِي هِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَظِنَّةِ الْكَثْرَةِ، فَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ، كَمَا تَعَلَّقَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ فِي اللِّبَاسِ بِالْحَرِيرِ، وَجَازَ اسْتِعْمَالُ الْقَصَبِ مِنْ الثِّيَابِ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى قِيمَةِ الْحَرِيرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute