صِحَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنْ السَّبَبِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ بَيَانُ عِلَّةِ النَّهْيِ عَنْ الْحِجَامَةِ، وَهِيَ الْخَوْفُ مِنْ الضَّعْفِ، فَيَبْطُلُ التَّعْلِيلُ بِمَا سِوَاهُ، أَوْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً. عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ لَا تُفَطِّرُ الصَّائِمَ إجْمَاعًا، فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَأَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْغِيبَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَرَادَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْحِجَامَةِ امْتَنَعَ، وَهَذَا أَشَدُّ عَلَى النَّاسِ، مَنْ يَسْلَمُ مِنْ الْغِيبَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ ضَعْفَ الصَّائِمِ بِهَا فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْفِطْرَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ قَرُبَا مِنْ الْفِطْرِ. قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَاجِمِ، فَإِنَّهُ لَا ضَعْفَ فِيهِ.
[فَصْلُ يُفْطِرُ بِكُلِّ مَا أَدْخَلَهُ إلَى جَوْفِهِ أَوْ مُجَوَّفٍ فِي جَسَدِهِ]
(٢٠٢٠) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ يُفْطِرُ بِكُلِّ مَا أَدْخَلَهُ إلَى جَوْفِهِ، أَوْ مُجَوَّفٍ فِي جَسَدِهِ كَدِمَاغِهِ وَحَلْقِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفُذُ إلَى مَعِدَتِهِ، إذَا وَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ، وَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، سَوَاءٌ وَصَلَ مِنْ الْفَمِ عَلَى الْعَادَةِ، أَوْ غَيْرِ الْعَادَةِ كَالْوَجُورِ وَاللَّدُودِ، أَوْ مِنْ الْأَنْفِ كَالسَّعُوطِ، أَوْ مَا يَدْخُلُ مِنْ الْأُذُنِ إلَى الدِّمَاغِ، أَوْ مَا يَدْخُلُ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْحَلْقِ كَالْكُحْلِ، أَوْ مَا يَدْخُلُ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الدُّبُرِ بِالْحُقْنَةِ، أَوْ مَا يَصِلُ مِنْ مُدَاوَاةِ الْجَائِفَةِ إلَى جَوْفِهِ، أَوْ مِنْ دَوَاءِ الْمَأْمُومَةِ إلَى دِمَاغِهِ، فَهَذَا كُلُّهُ يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّهُ وَاصِلٌ إلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَكْلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ، أَوْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ، سَوَاءٌ اسْتَقَرَّ فِي جَوْفِهِ، أَوْ عَادَ فَخَرَجَ مِنْهُ، وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُفْطِرُ بِالسَّعُوطِ، إلَّا أَنْ يَنْزِلَ إلَى حَلْقِهِ، وَلَا يُفْطِرُ إذَا دَاوَى الْمَأْمُومَةَ وَالْجَائِفَةَ.
وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي الْحُقْنَةِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْحَلْقِ مِنْهُ شَيْءٌ، أَشْبَهَ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الدِّمَاغِ وَلَا الْجَوْفِ. وَلَنَا أَنَّهُ وَاصِلٌ إلَى جَوْفِ الصَّائِمِ بِاخْتِيَارِهِ، فَيُفْطِرهُ، كَالْوَاصِلِ إلَى الْحَلْقِ، وَالدِّمَاغُ جَوْفٌ، وَالْوَاصِلُ إلَيْهِ يُغَذِّيه، فَيُفْطِرُهُ، كَجَوْفِ الْبَدَن.
[فَصْلُ إذَا وَجَدَ الصَّائِم طَعِّمْ الْكُحْلُ فِي حَلْقِهِ أَوْ عِلْم وُصُولَهُ إلَيْهِ]
(٢٠٢١) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْكُحْلُ، فَمَا وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، أَوْ عَلِمَ وُصُولَهُ إلَيْهِ، فَطَّرَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُفَطِّرْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: مَا يَجِدُ طَعْمَهُ كَالزُّرُورِ وَالصَّبْرِ وَالْقَطُورِ، أَفْطَرَ. وَإِنْ اكْتَحَلَ بِالْيَسِيرِ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute