حَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ. اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَقَالَ: لَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً بِغَيْرِ هَذَا.
وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْحَقِّ، مُدَّعٍ لِقَضَائِهِ، فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالْقَضَاءِ؛ وَإِلَّا حَلَفَ غَرِيمُهُ وَأَخَذَ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ، وَادَّعَى الْقَضَاءَ، فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْقَضَاءَ بِكَلَامِ مُنْفَصِلٍ، وَلِأَنَّهُ رَفَعَ جَمِيعَ مَا أَثْبَتَهُ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ. وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ قَوْلٌ مُتَّصِلٌ، يُمْكِنُ صِحَّتُهُ، وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ، وَفَارَقَ الْمُنْفَصِلَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ قَدْ اسْتَقَرَّ بِسُكُوتِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ بَعْضُهُ بِاسْتِثْنَاءِ وَلَا غَيْرِهِ، فَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ دَعْوَى الْقَضَاءِ يَكُونُ دَعْوَى مُجَرَّدَةً، لَا تُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةِ، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ فَمُتَنَاقِضٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
(٣٨٢٩) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ، وَقَضَيْتُهُ مِنْهَا خَمْسِينَ. فَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِيمَا إذَا قَالَ: وَقَضَيْتهَا. وَإِنْ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ: لِي عَلَيْك مِائَةٌ. فَقَالَ: قَضَيْتُك مِنْهَا خَمْسِينَ. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ قَضَاهَا فِي كَلَامِهِ مَا تَمْنَعُ بَقَاءَهَا، وَهُوَ دَعْوَى الْقَضَاءِ، وَبَاقِي الْمِائَةِ لَمْ يَذْكُرْهَا، وَقَوْلُهُ: مِنْهَا. يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا مِمَّا يَدَّعِيه، وَيَحْتَمِلُ مِمَّا عَلَيَّ، فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِكَلَامٍ مُحْتَمِلٍ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنْ يَلْزَمَهُ الْخَمْسُونَ الَّتِي ادَّعَى قَضَاءَهَا؛ لِأَنَّ فِي ضِمْنِ دَعْوَى الْقَضَاءِ إقْرَارًا بِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْقَضَاءِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ.
[فَصْلٌ قَالَ كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَسَكَتَ فِي الْإِقْرَار بِالْحُقُوقِ]
(٣٨٣٠) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ. وَسَكَتَ، لَزِمَهُ الْأَلْفُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَصْحَابِنَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ شَيْئًا فِي الْحَالِ، إنَّمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فَجَازَ فِي زَمَنٍ مَاضٍ، فَلَا يَثْبُتْ فِي الْحَالِ، وَلِذَلِكَ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ.
وَلَنَا، أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْوُجُوبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَرْفَعُهُ، فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ تَنَازَعَا دَارًا، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ، حُكِمَ بِهَا لَهُ، إلَّا أَنَّهُ هَاهُنَا إنْ عَادَ فَادَّعَى الْقَضَاءَ أَوْ الْإِبْرَاءَ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ إقْرَارِهِ وَبَيْنَ مَا يَدَّعِيه.
[فَصْلٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْته إيَّاهَا فِي الْإِقْرَار بِالْحُقُوقِ]
(٣٨٣١) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ، قَضَيْته إيَّاهَا. لَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْقَضَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute