كَانَ مَرَضًا يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ، كَالْحُمَّى وَأَشْبَاهِهَا، فَهُوَ كَالْغَائِبِ فِي الْإِشْهَادِ وَالتَّوْكِيلِ. وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا ظُلْمًا أَوْ بِدَيْنٍ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ، فَهُوَ كَالْمَرِيضِ، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَالْمُطْلَقِ، إنْ لَمْ يُبَادِرْ إلَى الْمُطَالَبَةِ، وَلَمْ يُوَكِّلْ فِيهَا، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا.
[مَسْأَلَة لَمْ يَعْلَم الشَّفِيع بِالْبَيْعِ حَتَّى تَبَايَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ]
(٤٠٣٤) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى تَبَايَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ، كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالشُّفْعَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَإِنْ طَالَبَ الْأَوَّلَ، رَجَعَ الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ، وَالثَّالِثُ عَلَى الثَّانِي)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ، أَوْ قَبْلَ عِلْمِهِ، فَتَصَرُّفُهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَصَحَّ قَبْضُهُ لَهُ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْبَيْعِ مَعِيبًا، لَمْ يَمْنَعْ التَّصَرُّفَ فِي الْآخَرِ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْهِبَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ مِمَّنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَمَتَى تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا صَحِيحًا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ، مِثْلُ أَنْ بَاعَهُ، فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ لَهُ قَبْلَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى تَصَرُّفَهُ وَأَخَذَ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ شَفِيعٌ فِي الْعَقْدَيْنِ، فَكَانَ لَهُ الْأَخْذُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا.
وَإِنْ تَبَايَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدَانِ الْأَخِيرَانِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّانِي، وَيَنْفَسِخُ الثَّالِثُ وَحْدَهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّالِثِ، وَلَا يَنْفَسِخُ شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ الثَّالِثِ، دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ الثَّانِي الثَّمَنَ دَفَعَ إلَيْهِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ، وَرَجَعَ الثَّالِثُ عَلَيْهِ بِمَا أَعْطَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْفَسَخَ عَقْدُهُ، وَأُخِذَ الشِّقْصُ مِنْهُ، فَيَرْجِعُ بِثَمَنِهِ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، دَفَعَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ، وَانْفَسَخَ عَقْدُ الْآخَرَيْنِ، وَرَجَعَ الثَّالِثُ عَلَى الثَّانِي بِمَا أَعْطَاهُ، وَرَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا أَعْطَاهُ، فَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِعَشْرَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الثَّانِي بِعِشْرِينَ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الثَّالِثُ بِثَلَاثِينَ، فَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةً، وَأَخَذَ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ عِشْرِينَ، وَأَخَذَ الثَّالِثُ مِنْ الثَّانِي ثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الثَّالِثِ، لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ وَقَدْ انْفَسَخَ عَقْدُهُ، فَيَرْجِعُ بِثَمَنِهِ الَّذِي وَرِثَهُ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِمَّا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةَ، فَهُوَ كَالْبَيْعِ، فِيمَا ذَكَرْنَا، وَمَا كَانَ مِمَّا لَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ، فَهُوَ كَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute