[مَسْأَلَة ادَّعَى دَعْوَى عَلَى مَرِيضٍ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ]
(٨٤٨٨) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى عَلَى مَرِيضٍ، فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ. لَمْ يَحْكُمْ بِهَا حَتَّى يَقُولَ بِلِسَانِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ إشَارَةَ الْمَرِيضِ لَا تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ أَوْ قَادِرًا عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِإِشَارَتِهِ، إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْإِشَارَةِ مِنْ عَاجِزٍ عَنْ الْكَلَامِ، فَأَشْبَهَ إقْرَارَ الْأَخْرَسِ. وَلَنَا، أَنَّهُ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْ نُطْقِهِ، فَلَمْ تَقُمْ إشَارَتُهُ مَقَامَ نُطْقِهِ، كَالصَّحِيحِ. وَبِهَذَا فَارَقَ الْأَخْرَسَ، فَإِنَّهُ مَأْيُوسٍ مِنْ نُطْقِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَرْتَجَّ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، بِخِلَافِ الْأَخْرَسِ.
وَالْآيِسَةُ يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا مَعَ إمْكَانِهِ فِي الْعِدَّةِ؛ وَلِأَنَّ عَجْزَهُ عَنْ النُّطْقِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتْرُكَ الْكَلَامَ لِصُعُوبَتِهِ عَلَيْهِ وَمَشَقَّتِهِ، لَا لِعَجْزِهِ. وَإِنْ صَارَ إلَى حَالٍ يَتَحَقَّقُ الْإِيَاسُ مِنْ نُطْقِهِ، لَمْ يُوثَقْ بِإِشَارَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي أَعْجَزَهُ عَنْ النُّطْقِ، لَمْ يَخْتَصَّ بِلِسَانِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَثَّرَ فِي عَقْلِهِ أَوْ فِي سَمْعِهِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا قِيلَ لَهُ، بِخِلَافِ الْأَخْرَسِ، وَلِأَنَّ الْأَخْرَسَ قَدْ تَكَرَّرَتْ إشَارَتُهُ حَتَّى صَارَتْ عِنْدَ مَنْ يُعَاشِرُهُ كَالْيَقِينِ، وَمُمَاثِلَةَ النُّطْقِ، وَهَذَا لَمْ تَتَكَرَّرْ إشَارَتُهُ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يُرْدِ الْإِقْرَارَ. إنَّمَا أَرَادَ الْإِنْكَارَ، أَوْ إسْكَاتَ مَنْ يَسْأَلُهُ، وَمَعَ هَذِهِ الْفُرُوقِ، لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ.
[مَسْأَلَة ادَّعَى دَعْوَى وَقَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةِ]
(٨٤٨٩) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى، وَقَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي. ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِبَيِّنَتِهِ) وَبِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: تُقْبَلُ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى، أَوْ يَكُونَ الشَّاهِدَانِ سَمِعَا مِنْهُ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ لَا يَعْلَمُ، فَلَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَذَّبَ بَيِّنَتَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: وَإِنْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَهَا، وَإِنْ كَانَ وَكِيلُهُ أَشْهَدَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ شَهِدَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْهِدَهُمْ، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي نَفْيِهِ إيَّاهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ.
وَلَنَا، أَنَّهُ أَكْذَبِ بَيِّنَتَهُ، بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ لَهُ أَحَدٌ، فَإِذَا شَهِدَ لَهُ إنْسَانٌ، كَانَ تَكْذِيبًا لَهُ، وَيُفَارِقُ الشَّاهِدَ إذَا قَالَ: لَا شَهَادَةَ عِنْدِي. ثُمَّ قَالَ: كُنْت نَسِيَتْهَا. لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ لِغَيْرِهِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَهَا هُنَا هُوَ مُقِرٌّ لِخَصْمِهِ بِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهُ. وَالْحُكْمُ فِي مَا إذَا قَالَ: كُلُّ بَيِّنَةَ لِي زُورٌ. كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي. عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute