للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ، فَإِنَّك تَدْرِي بِمَا تَقْضِي» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَلِأَنَّهُ قَضَاءٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْآخَرُ فِي الْبَلَدِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْغَائِبِ مَا يُبْطِلُ الْبَيِّنَةَ، وَيَقْدَحُ فِيهَا، فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ عَلَيْهِ. وَلَنَا، «أَنَّ هِنْدًا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي؟ قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَقَضَى لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، وَلِأَنَّ هَذَا لَهُ بَيِّنَةٌ مَسْمُوعَةٌ عَادِلَةٌ، فَجَازَ الْحُكْمُ بِهَا.

كَمَا لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا، وَقَدْ وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ مَا تَأَخَّرَ عَنْ سُؤَالِ الْمُدَّعِي إذَا كَانَ حَاضِرًا، يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ غَائِبًا، كَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ.

وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَنَقُولُ بِهِ إذَا تَقَاضَى إلَيْهِ رَجُلَانِ، لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ قَبْلَ سَمَاعِ كَلَامِهِمَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَا حَاضِرَيْنِ، وَيُفَارِقُ الْحَاضِرُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُسْمَعُ عَلَى حَاضِرٍ إلَّا بِحَضْرَتِهِ، وَالْغَائِبُ بِخِلَافِهِ. وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلَهُ، فَقَالَ: إذَا جَاءَتْ امْرَأَةٌ فَادَّعَتْ أَنَّ لَهَا زَوْجًا غَائِبًا، وَلَهُ مَالٌ فِي يَدِ رَجُلٍ، وَتَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ، فَاعْتَرَفَ لَهَا بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ، وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى حَاضِرٍ، أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ غَائِبٍ مَا فِيهِ شُفْعَةٌ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ، حَكَمَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَلَوْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَحَضَرَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ، أَوْ حَضَرَ وَكِيلُ الْغَائِبِ، وَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِذَلِكَ، حَكَمَ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ.

إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنْ قَدِمَ الْغَائِبُ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى حُضُورِهِ، فَإِنْ جَرَّحَ الشُّهُودَ، لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَنْظَرَ الْحَاكِمَ، أَجَّلَهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ جَرَّحَهُمْ، وَإِلَّا حَكَمَ عَلَيْهِ. وَإِنْ ادَّعَى الْقَضَاءَ أَوْ الْإِبْرَاءَ، فَكَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بَرِئَ، وَإِلَّا حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَحَكَمَ لَهُ، وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الْحُكْمِ، فَجَرَّحَ الشُّهُودَ بِأَمْرٍ كَانَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ، بَطَلَ الْحُكْمُ، وَإِنْ جَرَّحَهُمْ بِأَمْرٍ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَوْ مُطْلَقًا، لَمْ يَبْطُلْ الْحُكْمُ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحُكْمِ، فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ. وَإِنْ طَلَبَ التَّأْجِيلَ، أُجِّلَ ثَلَاثًا، فَإِنْ جَرَّحَهُمْ، وَإِلَّا نَفَذَ الْحُكْمُ.

وَإِنْ ادَّعَى الْقَضَاءَ، أَوْ الْإِبْرَاءَ، فَكَانَتْ لَهُ بِهِ بَيِّنَةٌ وَإِلَّا حَلَفَ الْآخَرُ، وَنَفَذَ الْحُكْمُ.

[فَصْلٌ وَلَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ]

(٨٣٠٠) فَصْلٌ: وَلَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَأَمَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَقْضِي بِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْإِسْقَاطِ، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى غَائِبٍ بِسَرِقَةِ مَالٍ، حُكِمَ بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ.

[فَصْلٌ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى غَائِبٍ أَوْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ]

(٨٣٠١) فَصْلٌ: وَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى غَائِبٍ، أَوْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لَمْ يَسْتَحْلِفْ الْمُدَّعِي مَعَ بَيِّنَتِهِ، فِي أَشْهَرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>