يُحْضِرَ الثَّمَنَ، وَيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا رَضِيَ بِبَذْلِ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ، فَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ قَبْلَ حُصُولِ عِوَضِهِ، وَلِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْمُعَاوَضَةِ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي التَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْجِيحِ فِي تَقْدِيمِ التَّسْلِيمِ مَعَ حُضُورِ الْعِوَضِ الْآخَرِ؛ لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ الْخَطَرِ الْمُحْوِجِ إلَى الْحَجْرِ، أَوْ الْمَحْجُوزِ لِلْفَسْخِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ. وَلِأَنَّ شَرْعَ الْحَجْرِ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ. وَلِأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى الْحَاكِمِ، وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ.
وَلِأَنَّ مَا أَثْبَتَ الْحَجْرَ وَالْفَسْخَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ التَّسْلِيمَ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ، وَالْمَنْعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَسْهَلُ مِنْ الْمَنْعِ بَعْدَهُ، وَلِذَلِكَ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ مَنْعَ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ صَدَاقِهَا، قَبْلَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، وَلَمْ تَمْلِكْهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ. وَلِأَنَّ لِلْبَائِعِ مَنْعَ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، أَوْ كَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ؛ لِإِمْكَانِ تَقْبِيضِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: لَهُ الْفَسْخُ. فَلَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ لِلْإِعْسَارِ بِثَمَنِهِ، فَمَلَكَهُ الْبَائِعُ، كَالْفَسْخِ فِي عَيْنِ مَالِهِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: يُحْجَرُ عَلَيْهِ. فَذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَجْرِ إلَيْهِ.
[فَصْلٌ هَرَبَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ وَزْن الثَّمَن وَهُوَ مُعَسِّر]
(٣٠٧٧) فَصْلٌ: فَإِنْ هَرَبَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ وَزْنِ الثَّمَنِ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْفَسْخَ مَعَ حُضُورِهِ، فَمَعَ هَرَبِهِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَثْبَتَ الْبَائِعُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، ثُمَّ إنْ وَجَدَ الْحَاكِمُ لَهُ مَالًا قَضَاهُ، وَإِلَّا بَاعَ الْمَبِيعَ، وَقَضَى ثَمَنَهُ مِنْهُ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَعُوز فَفِي ذِمَّتِهِ. وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ لِلْبَائِعِ الْفَسْخَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ الْفَسْخَ مَعَ حُضُورِهِ، إذَا كَانَ الثَّمَنُ بَعِيدًا عَنْ الْبَلَدِ، لِمَا عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ التَّأْخِيرِ، فَهَاهُنَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِكُلِّ حَالٍ أَوْلَى.
وَلَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِرَفْعِ الْأَمْرِ إلَى الْحَاكِمِ؛ لِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَقَدْ يَكُونُ الْبَيْعُ فِي مَكَان لَا حَاكِمَ فِيهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَحْضُرُهُ مَنْ يَقْبَلُ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ، فَإِحَالَتُهُ عَلَى هَذَا تَضْيِيعٌ لِمَالِهِ. وَهَذِهِ الْفُرُوعُ تُقَوِّي مَا ذَكَرْتُهُ، مِنْ أَنَّ لِلْبَائِعِ مَنْعَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ قَبْلَ إحْضَارِ ثَمَنِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ.
[فَصْلٌ الِامْتِنَاع مِنْ تَسْلِيم الْمَبِيع بَعْدَ قَبَضَ الثَّمَن لِأَجْلِ الِاسْتِبْرَاء]
(٣٠٧٨) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ الِاسْتِبْرَاءِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقَبِيحَةِ. وَقَالَ فِي الْجَمِيلَةِ: يَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُهُ فِيهَا، فَمُنِعَ مِنْهَا.
وَلَنَا، أَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ لَا خِيَارَ فِيهَا، قَدْ قَبَضَ ثَمَنَهَا، فَوَجَبَ تَسْلِيمُهَا، كَسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التُّهْمَةِ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ التَّسَلُّطِ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ قَبْضِ مَمْلُوكَتِهِ، كَالْقَبِيحَةِ. وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ بَيْعِهَا، فَاحْتِمَالُ وُجُودِ الْحَمْلِ فِيهَا بَعِيدٌ نَادِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا، فَهُوَ تَرَكَ التَّحَفُّظَ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ طَالَبَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِكَفِيلٍ، لِئَلَّا تَظْهَرَ حَامِلًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّحَفُّظَ لِنَفْسِهِ حَالَ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَفِيلٌ، كَمَا لَوْ طَلَبَ كَفِيلًا بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute