للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا، كَيْفَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ وَقَفَ نِصْفَ خَيْبَرَ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْغَانِمِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْفُهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ فِي افْتِتَاحِ الْأَرْضِينَ عَنْوَةً بِهَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ؛ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَيْبَرَ حِينَ قَسَمَهَا، وَبِهِ أَشَارَ بِلَالٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى عُمَرَ فِي أَرْضِ الشَّامِ، وَأَشَارَ بِهِ الزُّبَيْرُ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَحُكْمِ عُمَرَ فِي أَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهِ حِينَ وَقَفَهُ، وَبِهِ أَشَارَ عَلِيٌّ، وَمُعَاذٌ، عَلَى عُمَرَ فِي أَرْضِ الشَّامِ وَلَيْسَ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَادًّا لِفِعْلِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اتَّبَعَ آيَةً مُحْكَمَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: ٤١] . وَقَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: ٧] . الْآيَةُ.

فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ جَائِزًا، وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، فَمَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ فَعَلَهُ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ الْمُفَوَّضَ إلَى الْإِمَامِ اخْتِيَارُ مَصْلَحَةٍ، لَا اخْتِيَارُ تُشَهِّ فَيَلْزَمُهُ فِعْلُ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ، كَالْخِيَرَةِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ فِي الْأَسْرَى، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى النُّطْقِ بِالْوَقْفِ، بَلْ تَرْكُهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ هُوَ وَقْفُهُ لَهَا، كَمَا أَنَّ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى لَفْظٍ؛ وَإِنْ عُمَرَ وَغَيْرَهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ لَفْظُ الْوَقْفِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى وَقْفِهَا هَاهُنَا، أَنَّهَا بَاقِيَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، يُؤْخَذُ خَرَاجُهَا، وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَلَا يُخَصُّ أَحَدٌ بِمِلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهَذَا حَاصِلٌ بِتَرْكِهَا.

[فَصْلُ مَا صَالِح عَلَيْهِ الْكُفَّار مِنْ أَرْضِهِمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا وَنُقِرُّهُمْ فِيهَا بِخُرَّاجِ مَعْلُومٍ]

فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا جَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذِهِ تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الظُّهُورِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهَا غَانِمٌ، فَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْفَيْءِ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهَا الْإِمَامُ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَنْوَةِ إذَا وُقِفَتْ. وَمَا صَالَحَ عَلَيْهِ الْكُفَّارَ مِنْ أَرْضِهِمْ، عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا، وَنُقِرُّهُمْ فِيهَا بِخُرَّاجِ، مَعْلُومٍ، فَهُوَ وَقْفٌ أَيْضًا، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَحَ خَيْبَرَ، وَصَالَحَ أَهْلَهَا عَلَى أَنْ يَعْمُرُوا أَرْضَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ ثَمَرَتِهَا، فَكَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَصَالَحَ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَلَهُمْ مَا أُقِلْت الْإِبِلُ مِنْ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ، إلَّا الْحَلْقَةَ - يَعْنِي السِّلَاحَ - فَكَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ.

فَأَمَّا مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ، وَنُقِرُّهُمْ فِيهَا بِخُرَّاجِ مَعْلُومٍ. فَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ، تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ، وَالْأَرْضُ لَهُمْ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ الَّذِي ضُرِبَ عَلَيْهِمْ إنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>