[فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ]
(٤٧٢٨) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: ٨] إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: ٩]
الْآيَةَ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَاتَلَنَا لَا يَحِلُّ بِرُّهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَصِحُّ هِبَتُهُ، فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ، كَالذِّمِّيِّ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى عُمَرَ حُلَّةً مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْت فِي حُلَّةِ عُطَارِدَ مَا قُلْت، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا. فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا مُشْرِكًا لَهُ بِمَكَّةَ.» وَعَنْ «أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: أَتَتْنِي أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ - تَعْنِي الْإِسْلَامَ - فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَتْنِي أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.» وَهَذَانِ فِيهِمَا صِلَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبِرُّهُمْ. وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَنَا فِي مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَأَمَّا الْمُقَاتِلُ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ تَوَلِّيهِ لَا عَنْ بِرِّهِ وَالْوَصِيَّةِ لَهُ، وَإِنْ احْتَجَّ بِالْمَفْهُومِ، فَهُوَ لَا يَرَاهُ حُجَّةً. ثُمَّ قَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ الْهِبَةِ، وَالْوَصِيَّةُ فِي مَعْنَاهَا. فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، كَمَا تَصِحُّ هِبَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، وَلَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ، فَهُوَ كَالْمَيِّتِ. وَلِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِرِدَّتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَجَمَاعَةٍ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ بِالْوَصِيَّةِ.
[فَصْلٌ الْوَصِيَّةُ لِكَافِرِ بِمُصْحَفِ أَوْ بِعَبْدِ مُسْلِمٍ]
(٤٧٢٩) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكَافِرٍ بِمُصْحَفٍ وَلَا عَبْدٍ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هِبَتُهُمَا لَهُ، وَلَا بَيْعُهُمَا مِنْهُ. وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ كَافِرٍ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ، بَطَلَتْ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمِلْكُ عَلَى مُسْلِمٍ، وَمِنْ قَالَ: يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبُولِ. قَالَ: الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّنَا نَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِسَبَبٍ لَوْلَاهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ، فَمَنَعَ مِنْهُ، كَابْتِدَاءِ الْمِلْكِ.
[فَصْل الْوَصِيَّةُ بِمَعْصِيَةِ وَفِعْلٍ مُحَرَّمٍ]
(٤٧٣٠) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَعْصِيَةٍ وَفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، مُسْلِمًا كَانَ الْمُوصِي أَوْ ذِمِّيًّا، فَلَوْ وَصَّى بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ أَوْ بَيْتِ نَارٍ، أَوْ عِمَارَتِهِمَا، أَوْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا، كَانَ بَاطِلًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَصِحُّ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةَ بِأَرْضِهِ تُبْنَى كَنِيسَةً. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ. وَأَجَازَ أَصْحَابُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute