فِي مَكَانِ الْعَقْدِ فَإِذَا تَرَكَ ذِكْرَهُ كَانَ مَجْهُولًا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي بَرِّيَّةٍ اقْتَضَى الْعَقْدُ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ، فَاكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ ذَكَره، فَإِنْ ذَكَرَهُ كَانَ تَأْكِيدًا، فَكَانَ حَسَنًا فَإِنْ شَرَطَ الْإِيفَاءَ فِي مَكَان سَوَاءٍ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ بَيْعٍ فَصَحَّ شَرْطُ ذِكْرِ الْإِيفَاءِ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ. وَلِأَنَّهُ شَرَطَ ذِكْرَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ ذَكَرَهُ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ شَرَطَ خِلَافَ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْإِيفَاءَ فِي مَكَانِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: مَتَى ذَكَرَ مَكَانَ الْإِيفَاءِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، سَوَاءٌ شَرَطَهُ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ أَوْ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَأَشْبَهَ تَعْيِينَ الْمِكْيَالِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَكَانِ غَرَضًا وَمَصْلَحَةً لَهُمَا، فَأَشْبَهَ تَعْيِينَ الزَّمَانِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ احْتِمَالِ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ فِيهِ يَبْطُلُ بِتَعْيِينِ الزَّمَانِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ، فَإِذَا شَرَطَهُ فَقَدْ شَرَطَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَوْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَتَعَيَّنَ ذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ، نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ عَنْهُ، وَقَطْعًا لِلتَّنَازُعِ، فَالْغَرَرُ فِي تَرْكِهِ لَا فِي ذِكْرِهِ. وَفَارَقَ تَعْيِينَ الْمِكْيَالِ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَيَفُوتُ بِهِ عِلْمُ الْمِقْدَارِ الْمُشْتَرَطِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَيُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَرْطٌ، وَيَقْطَعُ التَّنَازُعَ، فَالْمَعْنَى الْمَانِعُ مِنْ التَّقْدِيرِ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ مَجْهُولٍ هُوَ الْمُقْتَضِي لِشَرْطِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ.
[مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ]
(٣٢٣٧) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَبَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ بَائِعِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، قَبْلَ قَبْضِهِ، فَاسِدٌ. وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ فِيهِ، وَالتَّوْلِيَةُ، وَالْحَوَالَةُ بِهِ، طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ) أَمَّا بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَلَا نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ خِلَافًا، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ» ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ. وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ فِيهِ وَالتَّوْلِيَةُ، فَلَا تَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا بَيْعٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ الشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَأَرْخَصَ فِي الشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ» .
وَلَنَا، أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ. وَلِأَنَّهُمَا نَوْعَا بَيْعٍ، فَلَمْ يَجُوزَا فِي الْمُسْلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَالْخَبَرُ لَا نَعْرِفُهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَالشَّرِكَةُ وَالتَّوْلِيَةُ بَيْعٌ فَيَدْخُلَانِ فِي النَّهْيِ. وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَأَرْخَصَ فِي الشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ. عَلَى أَنَّهُ أَرْخَصَ فِيهِمَا فِي الْجُمْلَةِ، لَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَإِنَّهَا فَسْخٌ وَلَيْسَتْ بَيْعًا. وَأَمَّا الْحَوَالَةُ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزَةٍ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إنَّمَا تَجُوزُ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ، وَالسَّلَمُ بِغَرَضِ الْفَسْخِ، فَلَيْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute