للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصْل لَا يعتبر فِي أَحْكَامِ التَّوْبَةِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ]

(٨٤٠١) فَصْلٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي ثُبُوتِ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ، مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَصِحَّةِ وِلَايَتِهِ فِي النِّكَاحِ، إصْلَاحُ الْعَمَلِ. وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، يُعْتَبَرُ إصْلَاحُ الْعَمَلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَنْبُهُ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَى، وَلَمْ يَكْمُلْ عَدَدُ الشُّهُودِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ إصْلَاحٍ، وَمَا عَدَاهُ فَلَا تَكْفِي التَّوْبَةُ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَنَةٌ، تَظْهَرُ فِيهَا تَوْبَتُهُ، وَيَتَبَيَّنُ فِيهَا صَلَاحُهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ هَذَا رِوَايَةً لِأَحْمَدْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: ٥] .

وَهَذَا نَصٌّ، فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبَ الْمُصْلِحَ؛ وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا ضَرَبَ صَبِيغًا أَمَرَ بِهِجْرَانِهِ، حَتَّى بَلَغَتْهُ تَوْبَتُهُ، فَأَمَرَ أَنْ لَا يُكَلَّمَ إلَّا بَعْدَ سَنَةٍ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا» .

وَقَوْلُهُ: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» . وَلِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، فَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ، وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الشِّرْكِ بِالْإِسْلَامِ لَا تَحْتَاجُ إلَى اعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، فَمَا دُونَهُ أَوْلَى. فَأَمَّا الْآيَةُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِصْلَاحُ هُوَ التَّوْبَةُ، وَعَطْفُهُ عَلَيْهَا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ، قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ، أَقْبَلْ شَهَادَتَك. وَلَمْ يَعْتَبِرْ أَمْرًا آخَرَ، وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ غَاصِبًا، فَرَدَّ مَا فِي يَدَيْهِ، أَوْ مَانِعًا لِلزَّكَاةِ، فَأَدَّاهَا وَتَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَدْ حَصَلَ مِنْهُ الْإِصْلَاحُ، وَعُلِمَ نُزُوعُهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ بِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يُرِدْ التَّوْبَةَ، مَا أَدَّى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلِأَنَّ تَقَيُّدَهُ بِالسَّنَةِ تَحَكُّمٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوْقِيفِ، وَمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ فِي حَقِّ صَبِيغٍ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ تَائِبٌ مِنْ بِدْعَةٍ، وَكَانَتْ تَوْبَتُهُ بِسَبَبِ الضَّرْبِ وَالْهِجْرَانِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ تَسَتُّرًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.

وَقَدْ ذَكَرِ الْقَاضِي، أَنَّ التَّائِبَ مِنْ الْبِدْعَةِ يُعْتَبَرُ لَهُ مُضِيُّ سَنَةٍ، لِحَدِيثِ صَبِيغٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " الْوَرَعِ "، قَالَ: وَمِنْ عَلَامَةِ تَوْبَتِهِ، أَنْ يَجْتَنِبَ مَنْ كَانَ يُوَالِيه مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَيُوَالِي مَنْ كَانَ يُعَادِيه مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الْبِدْعَةِ كَغَيْرِهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ بِفِعْلٍ يُشْبِهُ الْإِكْرَاهَ، كَتَوْبَةِ صَبِيغٍ، فَيُعْتَبَرُ لَهُ مُدَّةٌ تُظْهِرُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَنْ إخْلَاصٍ، لَا عَنْ إكْرَاهٍ. وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُتَظَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ: تُبْ، أَقْبَلْ شَهَادَتَك.

<<  <  ج: ص:  >  >>