[فَصْل بَذَلَتْ الْمَرْأَةُ الْجِزْيَةَ]
فَصْلٌ: وَإِنْ بَذَلَتْ الْمَرْأَةُ الْجِزْيَةَ، أُخْبِرَتْ أَنَّهَا لَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا، فَإِنْ قَالَتْ: فَأَنَا أَتَبَرَّعُ بِهَا. أَوْ: أَنَا أُؤَدِّيهَا. قُبِلَتْ مِنْهَا، وَلَمْ تَكُنْ جِزْيَةً، بَلْ هِبَةً تَلْزَمُ بِالْقَبْضِ. فَإِنْ شَرَطَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، كَانَ لَهَا ذَلِكَ وَإِنْ بَذَلَتْ الْجِزْيَةَ؛ لِتَصِيرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، مُكِّنَتْ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهَا الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَتُعْقَدُ لَهَا الذِّمَّةُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ، إلَّا أَنْ تَتَبَرَّعَ بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا. وَإِنْ أُخِذَ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، رُدَّ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا بَذَلَتْهُ مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ عَلَيْهَا، وَأَنَّ دَمَهَا لَا يُحْقَنُ إلَّا بِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ أَدَّى مَالًا إلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ.
وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا لَيْسَ فِيهِ إلَّا نِسَاءٌ، فَبَذَلْنَ الْجِزْيَةَ؛ لِتُعْقَدَ لَهُنًّ الذِّمَّةُ، عُقِدَتْ لَهُنَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَحَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُنَّ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا سَوَاءً. فَإِنْ كَانَ فِي الْحِصْنِ مَعَهُنَّ رِجَالٌ، فَسَأَلُوا الصُّلْحَ، لِتَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ دُونَ الرِّجَالِ، لَمْ تَصِحَّ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، وَبَرَّءُوا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ بَذَلُوا جِزْيَةً عَنْ الرِّجَالِ، وَيُؤَدُّوا عَنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، جَازَ، وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي جِزْيَتِهِمْ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ لَا تَلْزَمُهُ. فَإِنْ كَانَ الْقَدْرُ الَّذِي بَذَلُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِمَّا يُجْزِئُ فِي الْجِزْيَةِ، أُخِذَ مِنْهُمْ، وَسَقَطَ الْبَاقِي.
[فَصْلٌ بَلَغَ مِنْ أَوْلَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينِهِمْ.]
(٧٦٥٨) فَصْلٌ: وَمَنْ بَلَغَ مِنْ أَوْلَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينِهِمْ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ لَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي مَوْضِعٍ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الذِّمَّةَ، عُقِدَتْ لَهُ، وَإِلَّا أُلْحِقَ بِمَأْمَنِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ، تَجْدِيدُ الْعَقْدِ لِهَؤُلَاءِ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ مَعَ سَادَتِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِيهِ سَائِرهمْ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ عَهْدٍ مَعَ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِئْنَافِهِ لِذَلِكَ، كَالْهُدْنَةِ، وَلِأَنَّ الصِّغَارَ وَالْمَجَانِينَ دَخَلُوا فِي الْعَقْدِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِهِ لَهُمْ عِنْدَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِمْ، كَغَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ دَخَلُوا فِيهِ، فَيَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ، كَالْإِسْلَامِ.
إذَا ثَبَتَ، هَذَا فَإِنْ كَانَ الْبُلُوغُ وَالْإِفَاقَةُ فِي أَوَّلِ حَوْلِ قَوْمِهِ، أُخِذَ مِنْهُ فِي آخِرِهِ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أُخِذَ مِنْهُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِقِسْطِهِ، وَلَمْ يُتْرَكْ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُهُ، لِئَلَّا يُحْتَاجَ إلَى إفْرَادِهِ بِحَوْلٍ، وَضَبْطُ حَوْلِ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ، وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى أَنْ يَصِيرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَوْلٌ مُنْفَرِدًا.
[فَصْلٌ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ مِنْ أَهْل الذِّمَّة]
(٧٦٥٩) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛