وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَدَاوُد؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَكَلُوا الْجُبْنَ لَمَّا دَخَلُوا الْمَدَائِنَ، وَهُوَ يُعْمَلُ بِالْإِنْفَحَةِ، وَهِيَ تُؤْخَذُ مِنْ صِغَارِ الْمَعْزِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ.
وَلَنَا أَنَّهُ مَائِعٌ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، فَكَانَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ حَلَبَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَصَابَ الْمَيْتَةَ بَعْدَ فَصْلِهِ عَنْهَا لَكَانَ نَجِسًا، فَكَذَلِكَ قَبْلَ فَصْلِهِ، وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ مَا كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الذَّبْحَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ جَزَّارُوهُمْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْهُمْ لَكَانَ الِاحْتِمَالُ مَوْجُودًا، فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْأَصْلُ الْحِلُّ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ قَدِمُوا الْعِرَاقَ مَعَ خَالِدٍ، كَسَرُوا جَيْشًا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، بَعْدَ أَنْ نَصَبُوا الْمَوَائِدَ وَوَضَعُوا طَعَامَهُمْ لِيَأْكُلُوا، فَلَمَّا فَرَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ جَلَسُوا فَأَكَلُوا ذَلِكَ الطَّعَامَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ لَحْمًا، فَلَوْ حُكِمَ بِنَجَاسَةِ مَا ذُبِحَ بِبَلَدِهِمْ لَمَا أَكَلُوا مِنْ لَحْمِهِمْ شَيْئًا، وَإِذَا حَكَمُوا بِحِلِّ اللَّحْمِ فَالْجُبْنُ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ أَرْضًا فِيهَا مَجُوسٌ وَأَهْلُ كِتَابٍ، كَانَ لَهُ أَكْلُ جُبْنِهِمْ وَلَحْمِهِمْ، احْتِجَاجًا بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَابَتِهِ.
[فَصْلٌ مَاتَتْ الدَّجَاجَةُ وَفِي بَطْنِهَا بَيْضَةٌ قَدْ صَلُبَ قِشْرُهَا]
(٨٦) فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَتْ الدَّجَاجَةُ، وَفِي بَطْنِهَا بَيْضَةٌ قَدْ صَلُبَ قِشْرُهَا، فَهِيَ طَاهِرَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَكَرِهَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الدَّجَاجَةِ.
وَلَنَا أَنَّهَا بَيْضَةٌ صُلْبَةُ الْقِشْرِ، طَرَأَتْ النَّجَاسَةُ عَلَيْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ نَجِسٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا جُزْءٌ مِنْهَا. غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مُودَعَةٌ فِيهَا، غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهَا، فَأَشْبَهَتْ الْوَلَدَ إذَا خَرَجَ حَيًّا مِنْ الْمَيْتَةِ؛ وَلِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُخْلَقُ مِنْهَا مِثْلُ أَصْلِهَا، أَشْبَهَتْ الْوَلَدَ الْحَيَّ، وَكَرَاهَةُ الصَّحَابَةِ لَهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، اسْتِقْذَارًا لَهَا، وَلَوْ وُضِعَتْ الْبَيْضَةُ تَحْتَ طَائِرٍ، فَصَارَتْ فَرْخًا، كَانَ طَاهِرًا بِكُلِّ حَالٍ. فَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ الْبَيْضَةُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَا كَانَ قِشْرُهُ أَبْيَضَ، فَهُوَ طَاهِرٌ.
وَمَا لَمْ يَبْيَضَّ قِشْرُهُ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ حَائِلٌ حَصِينٌ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ؛ لِأَنَّ الْبَيْضَةَ عَلَيْهَا غَاشِيَةٌ رَقِيقَةٌ كَالْجِلْدِ، وَهُوَ الْقِشْرُ قَبْلَ أَنْ يَقْوَى، فَلَا يَنْجُسُ مِنْهَا إلَّا مَا كَانَ لَاقَى النَّجَاسَةَ، كَالسَّمْنِ الْجَامِدِ إذَا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ تَطْهُرُ إذَا غَسَلَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَمْنَعُ تَدَاخُلَ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهَا، بِخِلَافِ السَّمْنِ.
[مَسْأَلَةُ الْوُضُوءِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ]
(٨٧) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) فَإِنْ فَعَلَ كُرِهَ. أَرَادَ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ، وَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute