مِنْهُمَا بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ رَاكِدٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، أَشْبَهَ الْغَدِيرَ الْوَاحِدَ
[فَصْلٌ فِي الْمَاءِ الْجَارِي]
(٢٧) فَصْلٌ فِي الْمَاءِ الْجَارِي: نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاءِ الْجَارِي وَالرَّاكِدِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَوْضِ الْحَمَّامِ: قَدْ قِيلَ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي. وَقَالَ فِي الْبِئْرِ يَكُونُ لَهَا مَادَّةٌ: هُوَ وَاقِفٌ لَا يَجْرِي، لَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجْرِي.
فَعَلَى هَذَا لَا يَتَنَجَّسُ الْجَارِي إلَّا بِتَغَيُّرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ، وَلَا نَعْلَمُ فِي تَنْجِيسِهِ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، وَقَوْلِهِ: " الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ ". فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَنْجِيسِ قَلِيلِهِ؛ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» .
قُلْنَا: هَذَا حُجَّةٌ عَلَى طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ مَاءَ السَّاقِيَةِ بِمَجْمُوعِهِ قَدْ بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، فَلَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ، وَتَخْصِيصُ الْجِرْيَةِ مِنْهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْخَبَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْجَارِي عَلَيْهِ، لِقُوَّتِهِ بِجَرَيَانِهِ وَاتِّصَالِهِ بِمَادَّتِهِ، ثُمَّ الْخَبَرُ إنَّمَا يَدُلُّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى نَفْيِ النَّجَاسَةِ عَمَّا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ هَاهُنَا بِمَفْهُومِهِ، وَقَضَاءُ حَقِّ الْمَفْهُومِ يَحْصُلُ بِمُخَالَفَةِ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ لِمَا بَلَغَهُمَا، وَقَدْ حَصَلْت الْمُخَالَفَةُ بِكَوْنِ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَفْتَرِقُ فِيهِ الْمَاءُ الْجَارِي وَالرَّاكِدُ فِي التَّنْجِيسِ، وَمَا بَلَغَهُمَا لَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا كَافٍ.
وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُهُ: كُلُّ جِرْيَةٍ مِنْ الْمَاءِ الْجَارِي مُعْتَبَرَةٌ بِنَفْسِهَا، فَإِذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ جَارِيَةً مَعَ الْمَاءِ، فَمَا أَمَامَهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ، وَمَا خَلْفَهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا، وَالْجِرْيَةُ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ إنْ بَلَغَتْ قُلَّتَيْنِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ، إلَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهِيَ نَجِسَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ وَاقِفَةً فِي جَانِبِ النَّهْرِ، أَوْ قَرَارِهِ، أَوْ فِي وَهْدَةٍ مِنْهُ، فَكُلُّ جِرْيَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهِيَ نَجِسَةٌ، وَإِنْ بَلَغَتْ قُلَّتَيْنِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ، إلَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ.
وَالْجِرْيَةُ: هِيَ الْمَاءُ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا، مِمَّا الْعَادَةُ انْتِشَارُهَا إلَيْهِ إنْ كَانَتْ مِمَّا يَنْتَشِرُ، مَعَ مَا يُحَاذِي ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا بَيْنَ طَرَفَيْ النَّهْرِ.
فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُمْتَدَّةً فَلِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مِثْلُ تِلْكَ الْجِرْيَةِ الْمُعْتَبَرَةِ لِلنَّجَاسَةِ الْقَلِيلَةِ، وَلَا يُجْعَلُ جَمِيعُ مَا يُحَاذِيهَا جِرْيَةً وَاحِدَةً، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بِالنَّجَاسَةِ الْقَلِيلَةِ، وَنَفْيِ التَّنْجِيسِ عَنْ الْكَثِيرِ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ الْكَثِيرَةِ، فَإِنَّ الْمُحَاذِيَ لِلْكَثِيرَةِ كَثِيرٌ فَلَا يَتَنَجَّسُ، وَالْمُحَاذِي لِلْقَلِيلَةِ قَلِيلٌ فَيَتَنَجَّسُ، فَإِنَّنَا لَوْ فَرَضْنَا كَلْبًا فِي جَانِبِ نَهْرٍ، وَشَعْرَةٌ مِنْهُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، لَكَانَ الْمُحَاذِي لِلشَّعْرَةِ لَا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ؛ لِقِلَّةِ مَا يُحَاذِيهَا، وَالْمُحَاذِي لِلْكَلْبِ يَبْلُغُ قِلَالًا، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ، أَنَّ الْجِرْيَةَ الْمُحَاذِيَةَ لِلنَّجَاسَةِ فِيمَا بَيْنَ طَرَفَيْ النَّهْرِ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لِمَا بَيَّنَّاهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute