وَقَالَ الْقَاضِي: تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ مَا أَثْبَتَهُ بِدَعْوَى الْقَضَاءِ مُتَّصِلًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ، وَقَضَيْته.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى إنْ قَالَ: قَضَيْت جَمِيعَهُ. لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلَهُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ. وَلَوْ قَالَ: قَضَيْت بَعْضَهُ. قُبِلَ مِنْهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَ مَا أَقَرَّ بِهِ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَثْنَاهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: قَضَيْت جَمِيعَهُ. لِكَوْنِهِ رَفَعَ جَمِيعَ مَا هُوَ ثَابِتٌ، فَأَشْبَهَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ.
وَلَنَا، أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفٌ قَدْ قَضَاهُ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي بَقَاءَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَاسْتِحْقَاقَ مُطَالَبَتِهِ بِهِ، وَقَضَاؤُهُ يَقْتَضِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، وَتَحْرِيمَ مُطَالَبَتِهِ بِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ، وَالْقَضَاءُ يَقْتَضِي رَفْعَهُ، وَهَذَانِ ضِدَّانِ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ، وَقَضَيْته. فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِهِمَا فِي زَمَانَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْتَفِعَ مَا كَانَ ثَابِتًا، وَيَقْضِيَ مَا كَانَ دَيْنًا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا فِي الْجَمِيعِ، لَمْ يَصِحَّ فِي الْبَعْضِ؛ لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ أَلْفٍ عَلَيْهِ وَقَدْ قَضَى بَعْضَهُ، وَيُفَارِقُ الِاسْتِثْنَاءَ؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: ١٤] . عِبَارَةٌ عَنْ تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ.
أَمَّا الْقَضَاءُ فَإِنَّمَا يَرْفَعُ جُزْءًا كَانَ ثَابِتًا، فَإِذَا ارْتَفَعَ بِالْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ.
[فَصْلٌ وَصَلَ إقْرَارَهُ بِمَا يُسْقِطُهُ]
فَصْلٌ: وَإِنْ وَصَلَ إقْرَارَهُ بِمَا يُسْقِطُهُ، فَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ مِنْ ثَمَنِ طَعَامٍ اشْتَرَيْته فَهَلَكَ قَبْلَ قَبْضِهِ، أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَاسِدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ، أَوْ تَكَفَّلْت بِهِ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ. لَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِهِ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ زُيُوفٌ. فَفَسَّرَهُ بِرَصَاصٍ أَوْ نُحَاسٍ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ كُلَّ مَا اعْتَرَفَ بِهِ. وَقَالَ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ عَزَا إقْرَارَهُ إلَى سَبَبِهِ، فَقُبِلَ كَمَا لَوْ عَزَاهُ إلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ مَا أَقَرَّ بِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَالصُّورَةِ الَّتِي سَلَّمَهَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي. أَوْ يَقُولُ: دَفَعَ جَمِيعَ مَا أَقَرَّ بِهِ. فَلَمْ يُقْبَلْ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ.
وَغَيْرُ خَافٍ تَنَاقُضُ كَلَامِهِ؛ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَلْفٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِقْرَارُهُ إخْبَارٌ بِثُبُوتِهِ، فَيَتَنَافَيَانِ، وَإِنْ سَلَّمَ ثُبُوتَ الْأَلْفِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَا قُلْنَاهُ.
[فَصْلٌ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إقْرَارِهِ]
(٣٨٣٢) فَصْلٌ: وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إقْرَارِهِ، إلَّا فِيمَا كَانَ حَدًّا لِلَّهِ تَعَالَى، يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَيُحْتَاطُ لِإِسْقَاطِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute