[كِتَابُ الْإِقْرَارِ بِالْحُقُوقِ]
ِ الْإِقْرَارُ: هُوَ الِاعْتِرَافُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: ٨١] إلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: ٨١] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: ١٠٢] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: ١٧٢] . فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ هَذَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا أَقَرَّ بِالزِّنَى، فَرَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ الْغَامِدِيَّةُ، وَقَالَ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى صِحَّةِ الْإِقْرَارَ.
وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَلَى وَجْهٍ يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ وَالرِّيبَةَ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكْذِبُ عَلَى نَفْسِهِ كَذِبًا يُضِرُّ بِهَا، وَلِهَذَا كَانَ آكَدَ مِنْ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا اعْتَرَفَ لَا تُسْمَعُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا تُسْمَعُ إذَا أَنْكَرَ، وَلَوْ كَذَّبَ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ لَمْ تُسْمَعْ، وَإِنْ كَذَّبَ الْمُقِرَّ ثُمَّ صَدَّقَهُ سُمِعَ.
(٣٨١٥) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ. فَأَمَّا الطِّفْلُ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمُبَرْسَمُ، وَالنَّائِمُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُمْ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» .
فَنَصَّ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ. وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ مِنْ غَائِبِ الْعَقْلِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمٌ، كَالْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ، صَحَّ إقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي الْيَتِيمِ: إذَا أُذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، فَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَضَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، جَازَ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فِيهِ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى: إنَّمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِيهِ، فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِحَالٍ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ، فَأَشْبَهَ الطِّفْلَ، وَلِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ، فَأَشْبَهَ الطِّفْلَ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَاقِلٌ مُخْتَارٌ، يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ، كَالْبَالِغِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ فِيمَا مَضَى، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ التَّكْلِيفِ وَالْإِثْمِ. فَإِنْ أَقَرَّ مُرَاهِقٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْمُقَرُّ لَهُ فِي بُلُوغِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِبُلُوغِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ.
وَلَا يَحْلِفُ الْمُقِرُّ؛ لِأَنَّنَا حَكَمْنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute