لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِكُلِّ مَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ، يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ. وَأَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ وَهُوَ مَا لَا يُبَاحُ فِيهِ الْقَصْرُ، فَإِنَّهُ تُبَاحُ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ عِنْدَ إمَامِنَا، وَاللَّيْثِ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُبَاحُ إلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ؛ لِأَنَّهُ رُخْصَةُ سَفَرٍ، فَاخْتُصَّ بِالطَّوِيلِ كَالْقَصْرِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: ١١٥] ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً، حَيْثُ تَوَجَّهَ بِكَ بَعِيرُكَ. وَهَذَا مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلِلْبُخَارِيِّ: «إلَّا الْفَرَائِضَ» . وَلِمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُد: «غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ» . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ، وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَخْفِيفٌ فِي التَّطَوُّعِ، كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى قَطْعِهَا وَتَقْلِيلِهَا، وَهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ، وَالْقَصْرُ وَالْفِطْرُ يُرَاعَى فِيهِ الْمَشَقَّةُ، وَإِنَّمَا تُوجَدُ غَالِبًا فِي الطَّوِيلِ.
قَالَ الْقَاضِي: الْأَحْكَامُ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الطَّوِيلُ مِنْ السَّفَرِ وَالْقَصِيرُ ثَلَاثَةٌ: التَّيَمُّمُ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ، وَالتَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَبَقِيَّةُ الرُّخَصِ تَخُصُّ الطَّوِيلَ؛ الْفِطْرُ، وَالْجَمْعُ، وَالْمَسْحُ ثَلَاثًا.
[فَصْلٌ حُكْمُ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ]
(٦٠٧) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ حُكْمُ الصَّلَاةِ فِي الْخَوْفِ، فِي أَنَّهُ يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ. قَالَ جَابِرٌ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ، فَجِئْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنْ الرُّكُوعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْبَعِيرِ وَالْحِمَارِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى خَيْبَرَ.» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. لَكِنْ إنْ صَلَّى عَلَى حَيَوَانٍ نَجِسٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ طَاهِرَةٌ.
[فَصْلٌ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي مَكَان وَاسِعٍ]
(٦٠٨) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي مَكَان وَاسِعٍ، كَالْمُنْفَرِدِ فِي الْعِمَارِيَّةِ يَدُورُ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute