كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبُ أَنَّهُ رَبِحَ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ: غَلِطْت.
وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ فَقَالَ: أَحْلِفُوهُ لِي مَعَ بَيِّنَتِهِ. لَمْ يُسْتَحْلَفْ، كَذَا هَاهُنَا. وَالثَّانِيَةُ، يُسْتَحْلَفُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالْإِقْرَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَحْتَمِلُ صِحَّةَ مَا قَالَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْلَفَ خَصْمُهُ لِنَفْيِ الِاحْتِمَالِ.
وَيُفَارِقُ الْإِقْرَارُ الْبَيِّنَةَ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ قَبْلَهُ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَبْضِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ شَهَادَةَ زُورٍ.
وَالثَّانِي، أَنَّ إنْكَارَهُ مَعَ الشَّهَادَةِ طَعْنٌ فِي الْبَيِّنَةِ، وَتَكْذِيبٌ لَهَا، وَفِي الْإِقْرَارِ بِخِلَافِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْهُ أَلْفًا وَقَبَضَهَا، أَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ. ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْت قَبَضْتهَا، وَإِنَّمَا أَقْرَرْت لِأَقْبِضَهَا. فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ.
وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ وَكِيلِهِ وَظَنِّهِ، وَالشَّهَادَةُ لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى الْيَقِينِ. فَأَمَّا إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَهُ طَعَامًا، ثُمَّ قَالَ: مَا أَقْبَضْتُكَهُ. وَقَالَ الْمُتَّهِبُ: بَلْ أَقْبَضْتنِيهِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ.
وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ، فَقَالَ: أَقْبَضْتنِيهَا. فَقَالَ: بَلْ أَخَذْتهَا مِنِّي بِغَيْرِ إذْنِي. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ. وَإِنْ كَانَتْ حِينَ الْهِبَةِ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ، لَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْوَاهِبِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُضِيُّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِيهَا. وَعَلَى مَنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ. مِنْهُمَا الْيَمِينُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
[مَسْأَلَةٌ الْإِقْرَارُ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ]
(٣٩٠١) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْإِقْرَارُ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، كَالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ، إذَا كَانَ لِغَيْرِ وَارِثٍ) هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِهِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ جَائِزٌ. وَحَكَى أَصْحَابُنَا رِوَايَةً أُخْرَى؛ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، أَشْبَهَ الْإِقْرَارَ لِوَارِثِ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ عَطِيَّةِ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ، كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ عَطِيَّةِ الْوَارِثِ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا لَا يَمْلِكُ عَطِيَّتَهُ، بِخِلَافِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَ.
وَلَنَا، أَنَّهُ إقْرَارٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ، فَقُبِلَ، كَالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِهِ، وَإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ، وَتَحَرِّي الصِّدْقِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. وَفَارَقَ الْإِقْرَارَ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. .
[فَصْلٌ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةِ أَوْ إقْرَارٍ]
(٣٩٠٢) فَصْلٌ: فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ فِي صِحَّتِهِ، وَفِي الْمَالِ سَعَةٌ لَهُمَا، فَهُمَا