وَإِنْ تَشَاحَّ الْوَرَثَةُ فِي الْكَفَنِ، جُعِلَ كَفَنُهُ بِحَسَبِ حَالِهِ، إنْ كَانَ مُوسِرًا كَانَ كَفَنُهُ رَفِيعًا حَسَنًا، وَيُجْعَلُ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَلْبَسُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَى حَسَبِ حَالِهِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " جُعِلَ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَبِخَمْسِينَ "
لَيْسَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ، إذْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَلَا فِيهِ إجْمَاعٌ، وَالتَّحْدِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَحْصُلُ الْجَيِّدُ وَالْمُتَوَسِّطُ فِي وَقْتِهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ فِي جَدِيدٍ، إلَّا أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَتُمْتَثَلُ وَصِيَّتُهُ.
كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ، فَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمَهْنَةِ وَالتُّرَابِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَقِيلٍ إلَى أَنَّ التَّكْفِينَ فِي الْخَلِيعِ أَوْلَى لِهَذَا الْخَبَرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِدَلَالَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ وُجُوبُ كَفَنِ الْمَيِّتِ]
(١٦١٥) فَصْلٌ: وَيَجِبُ كَفَنُ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ، وَلِأَنَّ سُتْرَتَهُ وَاجِبَةٌ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ حَمْزَةَ، وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا لَمْ يُوجَدْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا ثَوْبٌ، فَكُفِّنَ فِيهِ، وَلِأَنَّ لِبَاسَ الْمُفْلِسِ مُقَدَّمٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَكَذَلِكَ كَفَنُ الْمَيِّتِ.
وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَئُونَةُ دَفْنِهِ وَتَجْهِيزِهِ، وَمَا لَا بُدَّ لِلْمَيِّتِ مِنْهُ، فَأَمَّا الْحَنُوطُ وَالطِّيبُ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَحْسِينِ الْكَفَنِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
[فَصْلٌ كَفَنُ الْمَرْأَةِ وَمَئُونَةُ دَفْنِهَا مِنْ مَالِهَا]
(١٦١٦) فَصْلٌ: وَكَفَنُ الْمَرْأَةِ وَمَئُونَةُ دَفْنِهَا مِنْ مَالِهَا إنْ كَانَ لَهَا مَالٌ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ.
وَاخْتَلَفُوا عَنْ مَالِكٍ فِيهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ كُسْوَتَهَا وَنَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَفَنُهَا، كَسَيِّدِ الْعَبْدِ وَالْوَالِدِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ تَجِبُ فِي النِّكَاحِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلِهَذَا تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ وَالْبَيْنُونَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْقَطَعَ بِالْفُرْقَةِ فِي الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِالْمَوْتِ فَأَشْبَهَتْ الْأَجْنَبِيَّةَ، وَفَارَقَتْ الْمَمْلُوكَ، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ تَجِبُ بِحَقِّ الْمِلْكِ لَا بِالِانْتِفَاعِ وَلِهَذَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْآبِقِ وَفِطْرَتُهُ، وَالْوَلَدُ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ، وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ السَّيِّدَ وَالْوَالِدَ أَحَقُّ بِدَفْنِهِ وَتَوَلِّيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute