للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا أَجْزَأَهُ مَعَ تَرْكِهِ لِلْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى.

وَقَوْلُهُ: " وَيَنْوِيَ بِهِ الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ ". يَعْنِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ عَنْهُمَا إذَا نَوَاهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ عَنْ الْوُضُوءِ، حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ بَعْدَهُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ وَالْحَدَثَ وُجِدَا مِنْهُ، فَوَجَبَتْ لَهُمَا الطَّهَارَتَانِ، كَمَا لَوْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: ٤٣] . جَعَلَ الْغُسْلَ غَايَةً لِلْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ يَجِبُ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهَا؛ وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَتَدْخُلُ الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى، كَالْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمُغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ وَعَمَّ جَمِيعَ جَسَدِهِ، فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا افْتَرَضَ عَلَى الْجُنُبِ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ، دُونَ الْوُضُوءِ، بِقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: ٦] . وَهُوَ إجْمَاعٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ، تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى الْغُسْلِ، وَأَهْذَبُ فِيهِ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْوُضُوءَ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ الْغُسْلِ. فَإِنْ نَوَاهُمَا ثُمَّ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ غُسْلِهِ، أَتَمَّ غُسْلَهُ، وَيَتَوَضَّأُ» .

وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالثَّوْرِيُّ. وَيُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَأْنِفُ الْغُسْلَ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُنَافِي الْغُسْلَ، فَلَا يُؤَثِّرُ وُجُودُهُ فِيهِ، كَغَيْرِ الْحَدَثِ.

[فَصْلٌ إمْرَارُ يَدِهِ عَلَى جَسَدِهِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ]

(٣٠٨) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمْرَارُ يَدِهِ عَلَى جَسَدِهِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، إذَا تَيَقَّنَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُصُولُ الْمَاءِ إلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالَ مَالِكٌ: إمْرَارُ يَدِهِ إلَى حَيْثُ تَنَالُ يَدُهُ وَاجِبٌ. وَنَحْوُهُ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ.

وَقَالَ عَطَاءٌ، فِي الْجُنُبِ يُفِيضُ عَلَيْهِ الْمَاءَ، قَالَ: لَا، بَلْ يَغْتَسِلُ غُسْلَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: ٤٣] وَلَا يُقَالُ: اغْتَسَلَ إلَّا لِمَنْ دَلَكَ نَفْسَهُ؛ وَلِأَنَّ الْغُسْلَ طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ، فَوَجَبَ إمْرَارُ الْيَدِ فِيهَا، كَالتَّيَمُّمِ. وَلَنَا مَا رَوَتْ «أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: لَا، إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِك ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْك الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ إمْرَارُ الْيَدِ، كَغَسْلِ النَّجَاسَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>