للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَدَاوَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ شَهَادَتِهِ لَهُ بِالتَّزْكِيَةِ، وَإِنَّمَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا شَاهِدٌ لَهُ بِالتَّزْكِيَةِ وَالْعَدَالَةِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى نَفْيِ الْعَدَاوَةِ.

[فَصْل يَقُولَ لَا أَعْلَمُ مِنْ الشَّاهِد إلَّا الْخَيْرَ]

(٨٢٥٢) فَصْلٌ: وَلَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا الْخَيْرَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكْفِي؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ، وَلَا يَعْلَمُ إلَّا الْخَيْرَ، فَهُوَ عَدْلٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْدِيلِ، فَلَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْلَمُ مِنْهُ خَيْرًا. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِحَالِ أَهْلِ الْفِسْقِ، لَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ إلَّا الْخَيْرَ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ إسْلَامَهُمْ، وَهُوَ خَيْرٌ، وَلَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ.

[فَصْلٌ لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ لِلشُّهُودِ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ]

(٨٢٥٣) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ الْمُتَقَادِمَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِخَبَرِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَلِأَنَّ عَادَةَ النَّاسِ إظْهَارُ الصَّالِحَاتِ وَإِسْرَارُ الْمَعَاصِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ، فَرُبَّمَا اغْتَرَّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ فِي الْبَاطِنِ.

وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا عِلْمَ أَنَّ الْمُعَدِّلَ لَا خِبْرَةَ لَهُ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بِالتَّعْدِيلِ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ لِلْمُعَدِّلِ الشَّهَادَةُ بِالْعَدَالَةِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بَاطِنَةٌ. فَأَمَّا الْحَاكِمُ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الْعَدْلُ بِالتَّعْدِيلِ، وَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ الشَّهَادَةَ مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ، وَإِنْ اسْتَكْشَفَ الْحَالَ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا بَأْسَ.

[فَصْلٌ وَلَا يُسْمَعُ الْجَرْحُ فِي الشُّهُود إلَّا مُفَسَّرًا]

(٨٢٥٤) فَصْلٌ: وَلَا يُسْمَعُ الْجَرْحُ إلَّا مُفَسَّرًا، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّنِي رَأَيْته يَشْرَبُ الْخَمْرَ، أَوْ يُعَامِلُ بِالرِّبَا، أَوْ يَظْلِمُ النَّاسَ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ ضَرْبِهِمْ، أَوْ سَمِعْته يَقْذِفُ. أَوْ يُعْلَمُ ذَلِكَ بِاسْتِفَاضَتِهِ فِي النَّاسِ. وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ وَتَعْيِينِهِ.

وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَسَوَّارٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ فَاسِقٌ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ يُسْمَعُ مُطْلَقًا؛ فَكَذَلِكَ الْجَرْحُ، وَلِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالسَّبَبِ يَجْعَلُ الْجَارِحَ فَاسِقًا، وَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَى، فَيُفْضِي الْجَرْحُ إلَى جَرْحِ الْجَارِحِ، وَتَبْطِيلِ شَهَادَتِهِ، وَلَا يَتَجَرَّحُ بِهَا الْمَجْرُوحُ.

وَلَنَا، أَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَسْبَابِ الْجَرْحِ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي شَارِبِ النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مُجَرَّدُ الْجَرْحِ، لِئَلَّا يَجْرَحَهُ بِمَا لَا يَرَاهُ الْقَاضِي جَرْحًا؛ وَلِأَنَّ الْجَرْحَ يَنْقُلُ عَنْ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، وَالْجُرْحُ يَنْقُلُ عَنْهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ النَّاقِلُ، لِئَلَّا يُعْتَقَدَ نَقْلُهُ بِمَا لَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ نَاقِلًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>