أَحْمَدَ عَنْ بَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ: فَالْخَبَرُ الَّذِي جَاءَ بِالنَّهْيِ. قَالَ: كَانَ ذَلِكَ مَرَّةً. فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الْبَيْعِ، وَأَنَّ النَّهْيَ اخْتَصَّ بِأَوَّلِ الْإِسْلَامِ؛ لِمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الضِّيقِ فِي ذَلِكَ.
وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ يَثْبُتُ فِي حَقِّنَا، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بِهِ دَلِيلٌ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَحْرُمُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ؛ أَحَدِهَا، أَنْ يَكُونَ الْحَاضِرُ قَصَدَ الْبَادِيَ؛ لِيَتَوَلَّى الْبَيْعَ لَهُ. وَالثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْبَادِي جَاهِلًا بِالسِّعْرِ؛ لِقَوْلِهِ: " فَيُعَرِّفَهُ السِّعْرَ "، وَلَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ، إلَّا لِجَاهِلٍ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا كَانَ الْبَادِي عَارِفًا بِالسِّعْرِ، لَمْ يَحْرُمْ. وَالثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ قَدْ جَلَبَ السِّلَعَ لِلْبَيْعِ؛ لِقَوْلِهِ: " وَقَدْ جَلَبَ السِّلَعَ ". وَالْجَالِبُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالسِّلَعِ لِيَبِيعَهَا.
وَذَكَرَ الْقَاضِي شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ؛ أَحَدَهُمَا، أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِبَيْعِهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا. وَالثَّانِي، أَنْ يَكُونَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى مَتَاعِهِ، وَضِيقٌ فِي تَأْخِيرِ بَيْعِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا يَحْرُمُ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ؛ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا إلَّا حَاجَةَ النَّاسِ إلَى مَتَاعِهِ، فَمَتَى اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ، لَمْ يَحْرُمْ الْبَيْعُ، وَإِنْ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، فَالْبَيْعُ حَرَامٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الْخِرَقِيِّ بِبُطْلَانِهِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ الْحَضَرِيِّ يَبِيعُ لِلْبَدَوِيِّ؟ فَقَالَ: أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَرُدُّ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِكَوْنِ النَّهْيِ لِمَعْنَى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَلَنَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
[فَصْلٌ شِرَاء الْحَاضِر لِلُّبَادَى]
(٣١٠٥) فَصْلٌ: فَأَمَّا الشِّرَاءُ لَهُمْ، فَيَصِحُّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَكَرِهَتْ طَائِفَةٌ الشِّرَاءَ لَهُمْ، كَمَا كَرِهَتْ الْبَيْعَ. يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ قَالَ، كَانَ يُقَالُ: هِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، يَقُولُ: لَا تَبِيعَنَّ لَهُ شَيْئًا، وَلَا تَبْتَاعَنَّ لَهُ شَيْئًا.
وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّ النَّهْي غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلشِّرَاءِ بِلَفْظِهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الْبَيْعِ لِلرِّفْقِ بِأَهْلِ الْحَضَرِ، لِيَتَّسِعَ عَلَيْهِمْ السِّعْرُ، وَيَزُولَ عَنْهُمْ الضَّرَرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ لَهُمْ، إذْ لَا يَتَضَرَّرُونَ، لِعَدَمِ الْغَبْنِ لِلْبَادِينَ، بَلْ هُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ، وَالْخَلْقُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ عَلَى السَّوَاءِ، فَكَمَا شَرَعَ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ أَهْلِ الْحَضَرِ، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَلْزَمَ أَهْلَ الْبَدْوِ الضَّرَرُ. وَأَمَّا إنْ أَشَارَ الْحَاضِرُ عَلَى الْبَادِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَيْعَ لَهُ، فَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute