للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . فَجَعَلَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي، فَلَا يَبْقَى فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي أَكْثَرُ فَائِدَةً، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا، كَتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ. وَدَلِيلُ كَثْرَةِ فَائِدَتِهَا، أَنَّهَا تُثْبِتُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ، وَبَيِّنَةُ الْمُنْكِرِ إنَّمَا تُثْبِتُ ظَاهِرًا تَدُلُّ الْيَدُ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا رُؤْيَةَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَصَارَتْ الْبَيِّنَةُ بِمَنْزِلَةِ الْيَدِ الْمُفْرَدَةِ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهَا بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، كَمَا تُقَدَّمُ عَلَى الْيَدِ، كَمَا أَنَّ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ لَمَّا كَانَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، لَمْ تَكُنْ لَهُمَا مَزِيَّةٌ عَلَيْهِمَا. (٨٥٠١) فَصْلٌ: وَأَيُّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَدَّمْنَاهَا، لَمْ يَحْلِفْ صَاحِبُهَا مَعَهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُسْتَحْلَفُ صَاحِبُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ سَقَطَتَا بِتَعَارُضِهِمَا، فَصَارَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، فَيَحْلِفُ الدَّاخِلُ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ. وَلَنَا، أَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ رَاجِحَةٌ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا مُنْفَرِدَةً، كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ، خَاصٌّ وَعَامٌ، أَوْ أَحَدُهُمَا أَرْجَحُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ الرَّاجِحَةَ تَسْقُطُ، وَإِنَّمَا تُرَجَّحُ، وَيُعْمَلُ بِهَا، وَتَسْقُطُ الْمَرْجُوحَةُ.

[فَصْل كَانَتْ الْبَيِّنَةُ لِأَحَدِ الْمُدَّعِينَ دُونَ الْآخَرِ]

(٨٥٠٢) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي وَحْدَهُ، حُكِمَ بِهَا، وَلَمْ يَحْلِفْ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْفُتْيَا مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ؛ مِنْهُمْ الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ شُرَيْحٌ وَعَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُسْتَحْلَفُ الرَّجُلُ مَعَ بَيِّنَتِهِ. قَالَ شُرَيْحٌ لِرَجَلٍ: لَوْ أَثْبَتِ عِنْدِي كَذَا وَكَذَا شَاهِدًا، مَا قَضَيْت لَك حَتَّى تَحْلِفَ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَضْرَمِيِّ: «بَيِّنَتُك، أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ.» وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إحْدَى حُجَّتَيْ الدَّعْوَى، فَيَكْتَفِي بِهَا، كَالْيَمِينِ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَالْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْمَجْنُونِ وَالْمُكَلَّفِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، أُحْلِفَ الْمَشْهُودُ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي دَعْوَى الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، فَيَقُومَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ. وَهَذَا حَسَنٌ؛ فَإِنَّ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ لِلْمُدَّعِي بِثُبُوتِ حَقِّهِ، لَا يَنْفِي احْتِمَالَ الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ ادَّعَاهُ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ وَبَيِّنَتُهُ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مُكَلَّفًا، فَسُكُوتُهُ عَنْ دَعْوَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَائِهِ، فَيَكْتَفِي بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، أَوْ مِمَّنْ لَا قَوْلَ لَهُ، نُفِيَ احْتِمَالُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ، فَتُشْرَعُ الْيَمِينُ لَنَفْيِهِ.

وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْمُدَّعِي

<<  <  ج: ص:  >  >>