ابْنُ عَائِذٍ، فِي كِتَابِهِ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ - أَظُنُّهُ الْمَنْصُورَ - سَأَلَهُ فِي مَقْدِمِهِ الشَّامَ، سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، عَنْ سَبَبِ الْأَرْضِينَ الَّتِي بِأَيْدِي أَبْنَاء الصَّحَابَةِ، يَذْكُرُونَ أَنَّهَا قَطَائِعُ لِآبَائِهِمْ قَدِيمَةٌ. فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَصَالَحُوا أَهْلَ دِمَشْق وَأَهْلَ حِمْصَ، كَرِهُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا دُونَ أَنْ يَتِمَّ ظُهُورُهُمْ، وَإِثْخَانُهُمْ فِي عَدُوِّ اللَّهِ، فَعَسْكَرُوا فِي مَرْجِ بَرَدَى، بَيْنَ الْمِزَّةِ إلَى مَرْجِ شَعْبَانَ، وَجَنْبَتَيْ بَرَدَى مُرُوجٌ كَانَتْ مُبَاحَةً فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ دِمَشْق وَقُرَاهَا، لَيْسَتْ لَأَحَدٍ مِنْهُمْ، فَأَقَامُوا بِهَا حَتَّى أَوْطَأَ اللَّهُ بِهِمْ الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا وَذُلًّا، فَأَحْيَا كُلُّ قَوْمٍ مَحَلَّتَهُمْ، وَهَيَّئُوا بِهَا بِنَاءً، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَأَمْضَاهُ لَهُمْ، وَأَمْضَاهُ عُثْمَانُ مِنْ بَعْدِهِ إلَى وِلَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَقَدْ أَمْضَيْنَاهُ لَهُمْ. وَعَنْ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فَتَحُوا حِمْصَ لَمْ يَدْخُلُوهَا، بَلْ عَسْكَرُوا عَلَى نَهْرِ الْأَرْبَدِ، فَأَحْيَوْهُ، فَأَمْضَاهُ لَهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ أُنَاسٌ تَعَدَّوْا إذْ ذَاكَ إلَى جِسْرِ الْأَرْبَدِ، الَّذِي عَلَى بَابِ الرَّسْتَنِ، فَعَسْكَرُوا فِي مَرْجِهِ مُسَلَّحَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَا أَمْضَاهُ عُمَرُ لِلْمُعَسْكِرِينَ عَلَى نَهْرِ الْأَرْبَدِ، سَأَلُوا أَنْ يُشْرِكُوهُمْ فِي تِلْكَ الْقَطَائِعِ، وَكَتَبُوا إلَى عُمَرَ فِيهِ، فَكَتَبَ أَنْ يُعَوَّضُوا مِثْلَهُ مِنْ الْمُرُوجِ الَّتِي كَانُوا عَسْكَرُوا فِيهَا عَلَى بَابِ الرَّسْتَنِ، فَلَمْ تَزُلْ تِلْكَ الْقَطَائِعُ عَلَى شَاطِئِ الْأَرْبَدِ، وَعَلَى بَابِ حِمْصَ، وَعَلَى بَابِ الرستن، مَاضِيَةً لِأَهْلِهَا، لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، تُؤَدِّي الْعُشْرَ. (١٨٦٦) فَصْلٌ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَرْضِ الْمُغِلَّةِ، أَمَّا الْمَسَاكِنُ فَلَا بَأْسَ بِحِيَازَتِهَا وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَسُكْنَاهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَا عَلِمْنَا أَحَدًا كَرِهَ ذَلِكَ، وَقَدْ اقْتَسَمَتْ الْكُوفَةُ خِطَطًا فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِذْنِهِ، وَالْبَصْرَةُ، وَسَكَنِهِمَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ الشَّامُ وَمِصْرُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْبُلْدَانِ، فَمَا عَابَ ذَلِكَ أَحَدٌ وَلَا أَنْكَرَهُ.
[مَسْأَلَةُ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ]
(١٨٦٧) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَمَا كَانَ مِنْ الصُّلْحِ، فَفِيهِ الصَّدَقَةُ) يَعْنِي مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ لِأَهْلِهِ، وَلَنَا عَلَيْهِمْ خَرَاجٌ مَعْلُومٌ، فَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ، مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ، وَإِنْ انْتَقَلَتْ إلَى مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ خَرَاجٌ، وَفِي مِثْلِهِ جَاءَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْبَحْرَيْنِ وَإِلَى هَجَرَ، فَكُنْت آتِي الْحَائِطَ تَكُونُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ، يُسْلِمُ أَحَدُهُمْ، فَآخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْعُشْرَ، وَمِنْ الْمُشْرِكِ الْخَرَاجَ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
، فَهَذَا فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْبَلَدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا فُتِحَا صُلْحًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، كَأَرْضِ الْمَدِينَةِ، فَهِيَ مِلْكٌ لَهُمْ، لَيْسَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ وَلَا شَيْءٌ. أَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا قَبْلَ قَهْرِهِمْ عَلَيْهَا، أَنَّهَا لَهُمْ، وَأَنَّ أَحْكَامَهُمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ فِيمَا زَرَعُوا فِيهَا الزَّكَاةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute