للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ، فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، فَإِنَّ مَنْ اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ، وَأَسْلَمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مُسْلِمٌ عِنْدَ اللَّهِ، مَوْعُودٌ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ طَائِعًا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ، لَا حَظَّ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ فِي هَذَا مَنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ اعْتِقَادِهِ مِنْ الْعَاقِلِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، وَيَقُومُونَ بِفَرَائِضِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ.

[فَصْلٌ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ]

(٧١١٦) فَصْلٌ: وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، لَمْ يَصِرْ كَافِرًا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هُوَ كَافِرٌ فِي الظَّاهِرِ، تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ إنْ مَاتَ، وَلَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْلِمٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَأَشْبَهَ الْمُخْتَارَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: ١٠٦] وَرُوِيَ «أَنَّ عَمَّارًا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى تَكَلَّمَ بِمَا طَلَبُوا مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ يَبْكِي، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ عَادُوا فَعُدْ» .

وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَجَابَهُمْ، إلَّا بِلَالٌ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ. أَحَدٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.» وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَفَارَقَ مَا إذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ، فَإِنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ، فَمَتَى زَالَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ، أُمِرَ بِإِظْهَارِ إسْلَامِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إسْلَامِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ، مُخْتَارًا لَهُ.

وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَكَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ، وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ، لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْإِكْرَاهِ. وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَالَ نُطْقِهِ بِهِ، حُكِمَ بِرِدَّتِهِ. فَإِنْ ادَّعَى وَرَثَتُهُ رُجُوعَهُ إلَى الْإِسْلَامِ، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَأْكُلُهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ، كَمَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا.

وَإِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>