[فَصْل أَدَاء الشَّهَادَة قَبْلَ طَلَبِهَا]
(٨٤١٨) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِآدَمِيٍّ، لَمْ يَخْلُ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهَا، أَوْ غَيْرَ عَالَمٍ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا، لَمْ يَجُزْ لِلشَّاهِدِ أَدَاؤُهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ يَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ أَدَاءَهَا حَقٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، فَلَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِرِضَاهُ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ غَيْرَ عَالَمٍ بِهَا، جَازَ لِلشَّاهِدِ أَدَاؤُهَا قَبْلَ طَلَبِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَمَالِكٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ " الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ، وَلَا يَعْلَمُ بِهَا الَّذِي هِيَ لَهُ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، فَتَرْكُهُ طَلَبَهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إقَامَتَهَا، بِخِلَافِ الْعَالِمِ بِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
[فَصْل لَفْظُ الشَّهَادَةِ]
(٨٤١٩) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي أَدَائِهَا، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِكَذَا. وَنَحْوَهُ. وَلَوْ قَالَ: أَعْلَمُ، أَوْ أُحِقُّ، أَوْ أَتَيَقَّنُ، أَوْ أَعْرِفُ. لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَصْدَرُ شَهِدَ يَشْهَدُ شَهَادَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِفِعْلِهَا الْمُشْتَقِّ مِنْهَا، وَلِأَنَّ فِيهَا مَعْنًى لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا مِنْ اللَّفَظَاتِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ فَيُقَالُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ. وَلِهَذَا تُسْتَعْمَلُ فِي اللِّعَانِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
[مَسْأَلَة شَهَادَةُ الْمُسْتَخِفِّي]
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُسْتَخْفِي، إذَا كَانَ عَدْلًا) الْمُسْتَخْفِي: هُوَ الَّذِي يُخْفِي نَفْسَهُ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِيَسْمَعَ إقْرَارَهُ، وَلَا يَعْلَمَ بِهِ، مِثْلُ مَنْ يَجْحَدُ الْحَقَّ عَلَانِيَةً، وَيُقِرُّ بِهِ سِرًّا، فَيَخْتَبِئُ شَاهِدَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِمَا، لِيَسْمَعَا إقْرَارَهُ بِهِ، ثُمَّ يَشْهَدَا بِهِ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ، عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ. وَبِهَذَا قَالَ عَمْرو بْنُ حُرَيْثٍ. وَقَالَ: كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْخَائِنِ وَالْفَاجِرِ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ أَبِي مُوسَى. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: ١٢] . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ، فَهِيَ أَمَانَةٌ» . يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِسَامِعِهِ ذِكْرُهُ عَنْهُ؛ لِالْتِفَاتِهِ وَحَذَرِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ضَعِيفًا يَنْخَدِعُ، لَمْ يُقْبَلَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، قُبِلَتْ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَا سَمِعَاهُ يَقِينًا، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، كَمَا لَوْ عَلِمَ بِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute