مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَلَهُ الْقَصْرُ؛ لِوُجُودِ نِيَّتِهِ الْمُبِيحَةِ، وَلَوْ قَصَدَ بَلَدًا بَعِيدًا، أَوْ فِي عَزْمِهِ أَنَّهُ مَتَى وَجَدَ طَلَبَتْهُ دُونَهُ رَجَعَ أَوْ أَقَامَ، لَمْ يُبَحْ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِسَفَرٍ طَوِيلٍ.
وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجِعُ وَلَا يُقِيمُ بِوُجُودِهِ، فَلَهُ الْقَصْرُ.
[فَصْلٌ كَانَ لِمَقْصِدِهِ طَرِيقَانِ يُبَاحُ الْقَصْرُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرَ]
(١٢٣٣) فَصْلٌ: وَمَتَى كَانَ لِمَقْصِدِهِ طَرِيقَانِ، يُبَاحُ الْقَصْرُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرَ، فَسَلَكَ الْبَعِيدَ لِيَقْصُرَ الصَّلَاةَ فِيهِ، أُبِيحَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا بَعِيدًا مُبَاحًا، فَأُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ أَوْ كَانَ الْآخَرُ مَخُوفًا أَوْ شَاقًّا
[فَصْلٌ صَلَاة الْمُسَافِر إذَا خَرَجَ مُكْرَهًا]
(١٢٣٤) فَصْلٌ: وَإِنْ خَرَجَ الْإِنْسَانُ إلَى السَّفَرِ مُكْرَهًا، كَالْأَسِيرِ، فَلَهُ الْقَصْرُ إذَا كَانَ سَفَرُهُ بَعِيدًا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقْصُرُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَاوٍ لِلسَّفَرِ وَلَا جَازِمٍ بِهِ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ أَنَّهُ مَتَى أَفْلَتَ رَجَعَ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا بَعِيدًا غَيْر مُحَرَّمٍ، فَأُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ، كَالْمَرْأَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ، إذَا كَانَ عَزْمُهُمَا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ أَوْ زَالَ مُلْكُهُمَا، رَجَعَ. وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِهَذَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يُتِمُّ إذَا صَارَ فِي حُصُونِهِمْ، نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْقَضَى سَفَرُهُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّ فِي عَزْمِهِ أَنَّهُ مَتَى أَفْلَتَ رَجَعَ، فَأَشْبَهَ الْمَحْبُوسَ ظُلْمًا.
[مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِمَنْ نَوَى السَّفَرَ الْقَصْرُ حَتَّى يَخْرُج مِنْ بُيُوت قَرْيَتِهِ]
(١٢٣٥) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (إذَا جَاوَزَ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ نَوَى السَّفَرَ الْقَصْرُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ، وَيَجْعَلَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، أَنَّهُمَا أَبَاحَا الْقَصْرَ فِي الْبَلَدِ لِمَنْ نَوَى السَّفَرَ. .
وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَنَّهُ أَرَادَ سَفَرًا، فَصَلَّى بِهِمْ فِي مَنْزِلِهِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِيهِمْ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ. وَرَوَى عُبَيْدُ بْنُ جَبْرٍ، قَالَ: «كُنْت مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَدَفَعَ، ثُمَّ قَرُبَ غِذَاؤُهُ، فَلَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ. فَقُلْت: أَلَسْت تَرَى الْبُيُوتَ؟ قَالَ أَبُو بَصْرَةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَكَلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: ١٠١] وَلَا يَكُونُ ضَارِبًا فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَخْرُجَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَبْتَدِئُ الْقَصْرَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ. قَالَ أَنَسٌ: «صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَأَمَّا أَبُو بَصْرَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ حَتَّى دَفَعَ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ: مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَبْعُدْ مِنْهَا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُبَيْدٍ لَهُ: أَلَسْت تَرَى الْبُيُوتَ؟