فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ يُحْبَسُ مِنْ أَجْلِ الْغَائِبِ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ إذَا كَانَ مُكَلَّفًا رَشِيدًا؛ وَلِذَلِكَ لَوْ وَجَدَ بَعْضَ مَالِهِ مَغْصُوبًا لَمْ يَمْلِكْ انْتِزَاعَهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَقًّا لِلْمَيِّتِ، وَلِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، وَلِهَذَا تَنْفُذُ وَصَايَاهُ مِنْ الدِّيَةِ، وَتُقْضَى دُيُونُهُ مِنْهَا، فَنَظِيرُهُ أَنْ يَجِدَ الْحَاكِمُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فِي يَدِ إنْسَانٍ شَيْئًا غَصْبًا، وَالْوَارِثُ غَائِبٌ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ.
وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ لِحَيِّ فِي طَرَفِهِ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِيُخَلِّيَ سَبِيلَهُ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَصِحُّ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنَّ فَائِدَتَهَا اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْكَفِيلِ إنْ تَعَذَّرَ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ الْقَاتِلِ، فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالْحَدِّ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِحَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَلَّى سَبِيلَهُ فَهَرَبَ، فَضَاعَ الْحَقُّ.
[فَصْلٌ قَتَلَهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَاقِينَ]
(٦٧٤٩) فَصْلٌ: فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَاقِينَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْأَخِيرُ، عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَتْلِهِ، وَبَعْضُهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَهُ، وَقَدْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِإِتْلَافِ بَعْضِ النَّفْسِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي قَتْلِ وَاحِدٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُشَارِكٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ كَانَ مُشَارِكًا فِي مِلْكِ الْجَارِيَةِ وَوَطْئِهَا، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ يَمْلِكُ بَعْضَهُ، فَلَمْ تَجِبْ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِاسْتِيفَائِهِ كَالْأَصْلِ. وَيُفَارِقُ إذَا قَتَلَ الْجَمَاعَةُ وَاحِدًا، فَإِنَّا لَا نُوجِبُ الْقِصَاصَ بِقَتْلِ بَعْضِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا نَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا لِجَمِيعِهَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَهُ عَلَيْهِ لِقَتْلِهِ بَعْضَ النَّفْسِ، فَمِنْ شَرْطِهِ الْمُشَارَكَةُ لِمَنْ فَعَلَهُ، كَفِعْلِهِ فِي الْعَمْدِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَاهُنَا.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ لِلْوَلِيِّ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ قِسْطَهُ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ الْقِصَاصِ سَقَطَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ. وَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى قَاتِلِ الْجَانِي، أَوْ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَى قَاتِلِ الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّهِ، فَكَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ نَصِيبَهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ لَهُ وَدِيعَةٌ فَأَتْلَفَهَا. وَالثَّانِي، يَرْجِعُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، أَوْ عَفَا شَرِيكُهُ عَنْ الْقِصَاصِ، وَقَوْلُنَا: أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّهِ، يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَتْلَفَ مُسْتَأْجَرَهُ أَوْ غَرِيمَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ، أَوْ كَانَ الْمُتْلَفُ أَجْنَبِيًّا، وَيُفَارِقُ الْوَدِيعَةَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute