[فَصْلٌ لَا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إلَّا بِالْقَبْضِ]
(٣٢٧٥) مَسْأَلَةٌ قَالَ (وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ) يَعْنِي لَا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إلَّا بِالْقَبْضِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، لَا يَلْزَمُ رَهْنُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَفِيمَا عَدَّاهُمَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ.
وَالْأُخْرَى، يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، كَالْبَيْعِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي. وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ خَاصَّةً. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْخِرَقِيِّ مَعَ عُمُومِهِ، قَدْ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ التَّعْمِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ، فَقَبْضُهُ أَخْذُهُ إيَّاهُ مِنْ رَاهِنِهِ مَنْقُولًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ، كَالدُّورِ وَالْأَرْضِينَ، فَقَبْضُهُ بِتَخْلِيَةِ رَاهِنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ.
وَقَدْ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الدَّارِ وَالْجَارِيَةِ إذَا رَدَّهَا إلَى الرَّاهِنِ: لَمْ يَكُنْ رَهْنًا فِي الْحَالِ. وَهَذَا كَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْتَزِمُ الرَّهْنَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ، فَلَزِمَ قَبْلَهُ، كَالْبَيْعِ.
وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: ٢٨٣] . وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إرْفَاقٍ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ، فَافْتَقَرَ إلَى الْقَبْضِ، كَالْقَرْضِ، وَلِأَنَّهُ رَهْنٌ لَمْ يُقْبَضْ، فَلَا يَلْزَمُ إقْبَاضُهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ، وَلَا يُشْبِهُ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَ بِإِرْفَاقِ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ ". يَعْنِي أَنَّ الرَّاهِنَ الَّذِي يَرْهَنُ وَيَقْبِضُ، يَكُونُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَهُوَ الْحُرُّ الْمُكَلَّفُ الرَّشِيدُ، وَلَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حَالِ رَهْنِهِ وَإِقْبَاضِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَالتَّسْلِيمَ لَيْسَ بِوَاجِبِ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى اخْتِيَارِ الرَّاهِنِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ، لَمْ يَصِحَّ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَصَرُّفٍ فِي الْمَالِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، كَالْبَيْعِ.
فَإِنْ جُنَّ أَحَدُ الْمُتَرَاهِنَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ مَاتَ، لَمْ يَبْطُلْ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِجُنُونِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ مَوْتِهِ، كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ، وَيَقُومُ وَلِيُّ الْمَجْنُونِ مَقَامَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ الرَّاهِنَ، وَكَانَ الْحَظُّ فِي التَّقْبِيضِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي بَيْعٍ يَسْتَضِرُّ بِفَسْخِهِ وَنَحْوَهُ أَقْبَضَهُ. وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْبِيضُهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ الْمُرْتَهِنَ، قَبَضَهُ وَلِيُّهُ إنْ اخْتَارَ الرَّاهِنُ، وَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ.
وَإِذَا مَاتَ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ. فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ، لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتُهُ تَقْبِيضَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الرَّاهِنِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ سِوَى هَذَا الدَّيْنِ، فَأَحَبَّ الْوَرَثَةُ تَقْبِيضَ الرَّهْنِ، جَازَ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَاهُ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَارِثِ تَخْصِيصُ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْن سَعِيدٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ، أَخْذًا مِمَّا نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا مَاتَ الرَّاهِنُ أَوْ أَفْلَسَ، فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ
وَلَمْ يَعْتَبِرْ وُجُودَ الْقَبْضِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا نَقَلَهُ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ وَهَذَا عَامٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute